انقَلَبت الحالة السياسيّة رَأسًا على عَقِب في زَمَن الإمام الحسن بن علي (ع)، واستطاعَ معاوية، عبر حربِه “المُرَكّبة” التي شَنَّها ضد نهج آل بيت الرسول، تحوير الرأي العام السياسي، ودَسّ فيه سموم الانحراف الثقافي والفكري، والسياسي بطبيعة الحال. لكن الإمام لم يَضعُف أمام المواجهة، وبقيت أهدافه السامية، وهي حفظ النهج المُحَمَّديّ الأصيل، نُصبَ عَيْنَيه، ومبتَغًى لا مناص من تَحقيقه بالطُّرُق المُناسِبة.
كُنّا قد أنشَأنا في الجِزئَين الأول والثاني من هذه السلسلة، سياقًا سياسيًا مترابِطًا، ظَهَّر الحالة العامة التي كانت تشوب المُجتَمَع الإسلامي، والتَبِعات الناتِجة عن المؤامرة التي ما انفَكَّت تَعصِفُ بالصيغة المُجتَمَعيّة السياسيّة للعالم الإسلامي، منذ لحظة وفاة الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (ص).
تلك التداعيات الخطيرة، جَعَلت الإمام الحَسن يطرح في قرارة نفسه خيارَين لا ثالث لهما، إما الذهاب نحو المواجهة العسكرية مع معاوية، وهذا ما تَبَيَّنَ عدم نجاعته وعدم قدرته على تحقيق أهداف الإمام، لأسباب ذكرناها في المقالة الماضية، أو اتخاذ خيار السِّلم “الفعّال” مع أهل السُّلطة الأموية، ما يفسح المجال أمام إبطال مفاعيل المؤامرة التي كانت تهدف إلى القضاء على دين النبي الأكرم ومحو آثار ذلك النّهج الإنسانيّ طَمَعًا بمفاتِن الدنيا، وحقدًا دفينًا على ذلك الموروث السليم.
إذًا كان القرار الذهاب نحو السِلم، وهذا الأخير يوضع أمام خيارين: إما الاستسلام لمعاوية والانسحاب من ساحة الصراع، ما يعني إعطاء الشرعية الكاملة للسلطة السُفيانيّة، وهذا ما يُعَدّ أشدّ خطرًا من الهزيمة العسكرية أو الإبادة، أو الخيار الثاني، وهو السلام القائم على شروط، وبمعنى آخر عَقد هِدنة مبنيّة على شرائط تخدم الهدف، وهذا ما سُمّي فِعلًا بِـ “الصُلح”، الذي كان هدفه السعي إلى حفظ الشيعة من مُخَطّطات إبادتهم واستئصالهم، وليُصبِح بعد انعقاد الصلح، الظلم المُوَجَّه ضد أتباع أهل بيت النبي، مفضوحًا وفاقِدًا لأي مُبَرِّر، ما يمنع الشُبُهات والتضليل. وهنا تُأتي المعادلة التي أرساها الإمام المجتبى، أن دماء الشيعة دونها فقدان الشرعية من الحكم الأموي وانكشاف غدرهم، ما يساهم في انطلاق قطار تَمتين الوعي عند الناس، وإدراكهم لطبيعة المعركة وأصول المواجهة فيها، لأن الغادِر والخائن والكاذب لا يمكن أن يكون أهلًا لإمامة الناس وخلافتهم.
وهنا لا بُدّ من ذكر البنود الأبرز في ذلك الصُلح، لِيَتَبَيَّن لنا لاحقًا كيف وقع معاوية في الشِرك الذي أفقَدَ حُكمَهُ الشَرعية، وجعل حُكمَ ابنِه يزيد فاقِدًا تمامًا لأي مشروعيّة، إضافةً إلى إظهار عدم وجود أي أحقيّة له في تَبَوُّؤ السلطة على المُسلمين، وقد ظَهَرت ثِمار ذلك في نتائج واقعة عاشوراء الخالدة التي لا زالت تُمثّل القضية الأبرز على الساحة البشرية منذ نحو 14 قرنًا.
من أبرز بنود الصُلح:
أن يكون أمر الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن، وفي حال عدم وجوده للإمام الحسين.
أن لا يسمي الإمام الحسن معاوية “أمير المؤمنين”، وأن لا يقيم عنده شهادة.
أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنة رسوله.
أن يكون أصحاب علي وشيعته آمنين على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.
والكثير من الشروط الأخرى التي سحبت جميع الذرائع من معاوية والأمويين، وأسقطت “أطروحتهم” وسلبتهم أي شرعية يمكن أن يدّعيها أي إنسان، حتى لو كان جاهلًا أو غير مسلم.
وبذلك، وِفقًا للصلح المُنعَقِد، لا يحقّ لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وبالتالي فإنه عندما عَهِدَ إلى ابنه يزيد، فإنما فعل أمرًا قد اعترف هو بعدم مشروعيّته. وهي الخطوة التي مهَّدَت الطريق نحو جعل معركة الإمام الحُسين ضد يزيد، بما لا لبس فيها، معركة مشروعيّة مُتمثّلة بالحُسَين، ضد سلطة فاقدة لأي أساس من الشرعية، إضافة إلى أنها تمثّل، باعتراف وإقرار معاوية ضمن الصُلح، مسارًا هَدّامًا للدين الإسلامي، وثُقبًا يهوي بالسفينة الإسلامية نحو قعر المحيط.
وفي مقامٍ آخر، حينما قَبِل معاوية بأن لا يُكَنّيه الإمام الحسن بأمير المؤمنين، وهو إعلانٌ صريح منه عليه السلام بأنه لا يرى في معاوية الشرعيّة التي يدّعيها الأخير لنفسه، وبالتالي فإن ما يسفكه معاوية من دماء بريئة من أجل ترسيخ سلطته، ما هو إلا إقدام على ارتكاب الجرائم والموبقات العِظام.
أما عن شرط أن لا يقيم الحَسَن شهادةً عند معاوية، فهو قد وضع الأخير في مقام لا حقّ له فيه، وهو مقام خلافة النبوّة، وهذا الدليل القاطع على أنه ليس لمعاوية من ذلك نصيب لأنه يفتقد لأدنى شرائط التصدّي لمثل هذا المقام الخطير. بالإضافة إلى أن هذا البند بالتحديد، يبطل كل ما يدّعيه معاوية لنفسه من مقامات، ويبطل بذلك شرعيّته التي يرتكز عليها في إحكام السيطرة على الوعي الجَمعي عند المسلمين.
بالحقيقة إذا أردنا دراسة كل شرط على حِدة، وهي شروط كثيرة، يلزمنا مئات الصفحات، لأن الإمام استطاع أن يُحكِمَ السيطرة في المعركة، ويُسَيّرها في إطار الحرب الناعمة التي شَنَّها معاوية للقضاء على موروث النبيّ الإسلاميّ الإنسانيّ.
كلّ تلك المسارات مَهَّدَت الأرضية المناسِبة لثورة الإمام الحسين، التي كان يجب أن تَتَلَخَّص في النهاية بالمواجهة العسكرية المباشرة ضد حُكم يزيد الفاقد للشّرعيّة. فأهداف الثورة لكي تَتَحَقَّق، احتاجَت معركةً خاضها الإمام الحسن، بحكمتِه وفِطنَتِه، وهي معركة “وَعي” بالمقام الأول، بعدما تَمَكَّنت المنظومة الحاكِمة بعد وفاة الرسول الأكرم من التلاعُب بالعقول وتضليل الرأي العام وتحريف القضيّة وتَشتيت قوّة المسلمين وإلهائهم عن مكامن ظلمهم وضرب القِيَم لديهم.
بالخلاصة، وبالوقائع التي أتينا على طرحها، فإن الصلح الذي عقده الإمام الحسن مع معاوية هو الذي أوصَل ملحمة عاشوراء إلى أن تكون الحادثة التي حفظت الدين، وحافظت على استدامته وفعاليته، وهي التي ركَّزَت شعائره وأظهَرت مثاليّته. وهكذا فإن عاشوراء لم تَكُن بحدّ ذاتها واقعة حدثت في العاشر من المحرم عام 61 هجري، إنما هي مسار متكامل رسمه الإمامان، الحَسَنُ والحُسَين، وكانا خير خلفٍ لدين الله في أرضه.