الرهان على النسيان: هل ينجح سمير جعجع بتبييض صفحات الماضي؟

قبل البدء بكتابة المقال، سألتُ نفسي ما يمكن أن يسأله أي قواتي، لماذا سمير جعجع؟ مع أن غالبية رؤساء الأحزاب شاركوا بحرب الميليشيات. الجواب هو نفسه السبب الذي جعلني أكتب مقالتي هذه، فأينما ذهبتَ وتحدثتَ عن الحرب الاهلية أمام كبار السن، ستجد اسم “سمير جعجع” الأكثر حضوراً في الحديث عن المجازر والحواجز، وضحاياه الذين لا أثر لجثامينهم حتى اليوم، لا سيما ضحاياه الذين رُموا في الحوض الخامس!

بعد العام ٢٠٠٥، ومع خروج رئيس حزب القوات من السجن بعفو خاص، كانت قيادات الحزب تسعى لإعادة لململة القواعد الشعبية، ومسح ما كان يراه المسيحيون من عار جلبه تاريخ الرجل خلال مأساة الحرب الاهلية.
بالنسبة لجعجع، فإنه كان يؤمن بأنَّ الرهان على مرور الوقت سيكون كافياً لأن يتخطى اللبنانيون صورة مقاتل القوات بالزي الزيتي، ذاك الميليشيوي الذي يقف على حواجز خطوط التماس ويبطش بهم ويقتل الاب أمام أعين زوجته وأطفاله. بينما كانت أصواتٌ أُخرى ترتفع داخل الحزب، مطالبةً بخطة لعودة الحزب الى العمل السياسي داخل المؤسسات، بتقديم نماذج ناجحة، يستقطب بها حزب القوات المزيد من التأييد حتى خارج اطار الحزب.

وبالفعل، سارت القوات في هذا الاتجاه، وفي كل حكومة، كانت القوات في غالبية المرات، تعمل على اختيار اسماء من خارج الماضي الأسود، إلا حينما يتطلب الوضع الحكومي وجود “صقور”، كانت تدخل القوات بمزيجٍ من البزة الزيتية والزي الرسمي.

الأمر لم يكن كافياً طبعاً، فبعد تسليم ميليشا القوات سلاحها، وعبورها “بخلاف الطبيعة” نحو العمل السياسي، بدأت القوات بتركيب خطابٍ جديد يؤكد على الانصهار في الدولة ورفض اشكال الدويلات. هذا الخطاب كان هدفًا مزدوجًا، ترمم بها خطابها العسكري العالق في العقول من جهة، وتواجه حزب الله من جهة أخرى.

بعد حرب تموز، واحداث ٧ ايار وطاولة الدوحة، رضخت القوات لاعتراف الحكومات المتعاقبة في بيانها الوزاري على حق المقاومة، فاستمرارها في الصراع كاد يكون كحرب طواحين الهواء، بعد تسليم جميع القوى السياسية بالأمر، ولم تكن لتضحي بتمثيلها الوزاري مقابل مواجهة خاسرة تتعلق بسلاح المقاومة، ولو سارت بالامر، لكادت خطة تبييض الماضي تنهار في وقت بدأت القوات تتلمس النتائج.

الخطة نفسها تركزت أيضًا على لزق جرائم القوات في خطاباتها السياسية بأخصامها المحليين والاقليميين، وصارت تتهم سوريا وحلفاءها بكل ما كانت متهمة به، القتل، الاغتيالات، المفقودين قصرًا، التفجير، بيع السلاح، وحتى المخدرات، كلها آفات دوّن التاريخ اسم القوات الى جانبها، وصارت مرتبطة بها.

قبيل الانتخابات النيابية عام ٢٠١٨، وبعد انتقال الرعاية السعودية من منزل آل الحريري في لبنان، الى قصر جعجع في معراب، اصبحت الاموال السعودية وما تستجلبه من اقلام وإعلام، دفعًا جديدًا لخطة القوات، لتصبح بديلًا مسيحيًا أولَ، عن حركة العماد ميشال عون، التي وصفت بالتسونامي، مع عودته من المنفى، والذي أعاد خلط الاوراق باتفاق مار مخايل عام ٢٠٠٦، وما أنتجه من خطاب جديد على المسيحيين لا سيما في عدوان تموز وبعده في مشاركة الحزب بالحرب السورية، والذي تكلل بتحرير الجرود من الارهابيين خلال ولاية عون في بعبدا، قبل أن يقلب الأميركي الطاولة عام ٢٠١٩ مستغلًّا الحراك الشعبي وسوء الاوضاع الاقتصادية، وبتسريعه للانهيار، امتطى جعجع الحصان، وخاض المرحلة الثالثة والاخيرة من خطته: جعجع وقواته يتحولان من “ميليشيا فسلطة الى حزب ثائر ضد منظومة”. ولو كان ما يفعله سمير جعجع هو لعبة الكترونية، لكانت هذه المرحلة هي الاخيرة في اللعبة.

في الانتخابات النيابية العام الماضي، قدم حزب القوات خطاب “البديل الفعّال” بالقول والفعل، عنوانه “نحنا بدنا وفينا”. ملايين الدولارات صرفتها القوات على اللوحات الاعلانية النبيذية من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، حتى في مناطق وطرقات، لا حضور قواتي فيها، لكن المطلوب كان أكبر من كونه حملة نيابية: خطاب القوات الجديدة التي ترتدي ربطة عنق. والارقام أثبتت أن خطة القوات نجحت جزئيًا. وقد تكون القوات مدينة لأموال السعودية، وأموال النفايات السامة التي رمتها في الحوض الخامس، او دفنتها في اعالي كسروان، لأنها كرست قناة mtv لتخوض معركتها في التزييف والترقيع، تزييف الاتهامات بحق الخصوم، وترقيع الاتهامات بحقها.

لكن على ارض الواقع، يعي جمهور واسع ما يسعى اليه حزب القوات وزعيمه، فيخرِّب عليهم نشوة النجاح، بنشرهم بين الحين والآخر، صورًا وفيديوهات تعود الى مرحلة سمير جعجع وقواته بصورتهم الحقيقية، لتذكيرهم بضرورة ألا يراهنوا على النسيان!

القوات اللبنانيةسمير جعجعلبنانميشال عونهام