ومضات من ذاكرة تمّوز 2006: “وعيتا الشَّعب ما زالت تُقاتل”

في صبيحة اليوم الأول للعدوان الصـــهـيوني على الضاحية في تموز من العام 2006 وفي خضم الانشغال والترقُّبِ لما يجري من حولنا، واجهتني مشكلة بالغة الدقَّة والتعقيد وهي كيف يمكن أن أجيب عن الأسئلة المتكرِّرة والمتلاحقة لعائلتي الصغيرة وخاصّةً لابنتي الصغرى (مريم) ذات الثماني سنوات (حاليًا قارب عمرها الخامسة والعشرون، أستاذة جامعية، تزوّجت وتنتظر مولودها الثاني)، وكيف أجيبها حول كل ما تسمعه من أصوات طائرات مغيرة وانفجارات تصمّ الآذان وتخلع القلوب والتي بسبب الرعب والخوف منها عند البعض بلغت قلوبهم الحناجر. ابنتي التي لم تكن معتادة على هذا النوع من الأصوات ولم تكن قد وعت أو رأت وعايشت أيًّا من حالات الحرب ومجرياتها، حاولتُ جاهدًا وكُلَّما حصلت غارة أو انفجر صاروخٌ غبي أن أهدئ من روعها وأخواتها تارةً ببسمةٍ أو ضحكةٍ أو دُعابة، وطورًا آخر بالشرح لها عن عدوانية “إسرائيل” وإجرامها وكرهها للأطفال وبراءة ضحكاتهم.

تُرحِّبُ بـــالموت الآتي بكلِّ طيبة خاطر
هذه العدوانية لم توفِّر حجرًا ولا بشرًا ولا حتّى الأشجار وعصافيرها، وكنت كيفما سرت أو توجَّهت أشاهد دمارًا هائلًا، هنا كانت بناية كذا، وهذه مدرسة، وهنا مستوصف، هناك محلٌ تجاري، وهنا كانت حارةٌ تضجُّ بالحياة وضحكات الأطفال، وهنا، وهنا، وهنا، واللائحة تطول إلى ما شاء الله. رائحة البارود ودخان الصواريخ والدمار والموت تملأ الشوارع والطرقات والأزقَّة. أبوابٌ ونوافذ وشرفات شرَّعتها القنابل والصواريخ على مصاريعها وكأنَّها تُرحِّبُ بـــالموت الآتي بكلِّ طيبة خاطر قاذفةً ما في دواخلها من محتويات، صور الأحبة ولُعب الأطفال وثيابهم وأسرَّتهم وكنبة لطالما استراحَ عليها ربُّ عائلةٍ عاد متعبًا من يومِ عملٍ مضنٍ.

كان قائدي يقف بكلِّ مهابةٍ وإجلالٍ
كُنتُ وعلى مدار أيَّام العُدوان لفضولِ أو حشريَّةٍ أو للهفةٍ، سمِّها ما شِئت، لا همَّ عِندي، كُنتُ أجول ناظِرًا ومشاهدًا ومتفقِّدًا بعض الأمكِنة هُناك، وبعد كُلِّ جولةِ من جولات العدوان اللئيم كُنتُ أعود بنتيجةِ واحدة: هذه الحرب هي انتقامٌ من إبائِنا وعزَّتِنا وكرامتنا، هي إنتقامٌ من شُهـدائِنا ومجاهــــدينا الّذين أذلّوا لمحتل الغاصب، بل هي إنتقامٌ من شعبنا الأبي، حضن المقاومة وأمِّها وأبيها، وأولًا هي انتقام من عُنوان مقاومتنا وشرفها وقامتها المهيبة قائد المقاومة وسيّدها الذي، وليصدِّق من يُصدّق وليؤمن من شاء أن يؤمن، كُنَّا نراهُ هُناك كلَّ يوم يجولُ متفقِّدًا أحوال الصَّامدين في الضاحية وحاراتها وأزقَّتِها، يُكفكِفُ دموع المقهورين والمظلومين ويمسحُ على رؤوسِ اليتامى وأطفال الشُّـــــهــــداء، كان قائدي يقف بكلِّ مهابةٍ وإجلالٍ أمام كلّ حجرٍ صامدٍ برغمِ الدمار وأمام كُلِّ شجرةٍ أبت الانحناء للعُدوان، يقفُ بكلِّ عِزَّةٍ وإباء وفخرٍ أمام كُلِّ مُجاهــدٍ ومقاومٍ مُرابط، يقفُ بكُلِّ حنوٍّ وعطفٍ واحتِرامٍ أمام كُلّ أبٍ وأمٍّ وزوجة وطفل شـهــــيدٍ من شُــهـدائِنا الأبرار.

كُنتُ أتلقَّى الدعوة تلو الأُخرى من محبِّين وأقرباء وأصدقاء للخروج وعائلتي من الضاحية والنزول في ضيافتهم حتى تنتهي الحرب، كُنتُ أحارُ في إجابتهم وكنتُ أختلِقُ العُذرَ تِلو الآخر لعدم المغادرة على الرغم من أنَّ عذري للخروج منها لا لُبسَ فيه، ولكن صدِّقوني كُنتُ في قرارةِ نفسي أشعرُ بالخجل لمجرّدِ التفكير أن أترك الضاحية ومن فيها وأنا على يقين أنَّ قائدي وسيِّدي وأخواني المجاهــــدين هُناك صامدون برغمِ القصفِ والتدميرِ والعُدوان.

رجال الله يوم الفتحِ في لبنان
هي أيَّامٌ من أيام الله عشناها بكلِّ فخرٍ وعزَّة وكرامة، كان فيها أنيسنا بسماتُ المجاهدين وصمودهم الأسطوري، وأجملُ الأمَّهات، و”علي شعيب” حدَّثكُم من الخيام، والجريدة التي هي صوت الذين لا صوت لهم، ورجال الله يوم الفتح في لبنان، ودعاء الأُمَّهات للمجاهدين وصبر النَّازحين وإباؤهُم واعتزازهُم بمقاومتهم الأبيَّة المُجاهدة.

في آخر أيَّام العدوان طالعتنا عناوين الصحُف بالتالي:
“الضاحيةُ الأبيَّةُ صامدة برغم الدَّمار .. وعيتا الشَّعب ما زالت تُقاتل” والسَّلام.

اساسيالضاحيةالوعد الصادقحرب تموزعيتا الشعب