الموت المتنقّل يخيم في سماء لبنان

يبدو أن ظاهرة إطلاق الرصاص الطائش لن تفارق اللبنانيين أبدًا في كل حدث أو مناسبة، إذ دفع جهل البعض إلى تكريس هذه الظاهرة الخطيرة كجزء من العادات والتقاليد التي لا تأثير لها على المجتمع الإنساني سوى “القتل”.

لم تسعف النداءات وحملات التوعية في ردع ممارسي هذه العادة الشنيعة، ومنعهم من ممارستها والتسبب بالخسائر في الأرواح والممتلكات، بل شجعهم على الاستمرار في ذلك –إضافةً إلى جهلهم وقلة إدراكهم- غياب الدولة ومؤسساتها الأمنية المسؤولة عن ملاحقة ومحاسبة الجاهلين والمخالفين لكل المبادئ القانونية والإنسانية والأخلاقية.

خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات
لم يستثن الرصاص الطائش شيئًا، ولن يعرف وجهته أحد، إن كنت في أي مكان أو زمان، بقصد أو بغير قصد، ربما ستكون فريسة لرصاصة عمياء قد تودي بحياتك. تخيم هذه الحقيقة المؤلمة والقاهرة على حياة المجتمع اللبناني المترهل أساسًا، المحاط بكل أشكال الأزمات والتحديات الحياتية والمعيشية، حتى بات المواطن اليوم يعيش هاجس الموت بالجوع أو بالرصاص.

لم تظهر أي إحصاءات حديثة خاصة بضحايا الرصاص الطائش في لبنان، إلا أن آخرها كان ما نشرته “الدولية للمعلومات” منذ سنتين، ضمن دراسة تفيد بسقوط 81 قتيلًا و169 جريحًا، خلال الأعوام 2010-2021 أي بمعدل سنوي 7 قتلى و15 جريحًا.

أمام هذه الإحصاءات، تتضح الصورة بشكل أعمق، لنجد العديد من العائلات التي فقدت عزيزًا لها برصاصة الموت هذه، رصاصة أحدثت في جوف العائلة جرحًا ينزف طويلًا وربما للأبد، فضلًا عن عشرات الأطفال الذين أصيبوا بنفس الرصاصة، فكان مصيرهم الموت أو الإصابة الدائمة، ولم يكن ذنب هؤلاء الضحايا أو الأطفال سوى أنهم كانوا في محيط “الجهلة والحمقى”.

لم تكف الأرواح لتسد جوع الموت الطائش، بل كانت الممتلكات أيضًا بكل أشكالها فريسة أخرى له، وفي ظل الانهيار الاقتصادي والخدماتي الذي يشهده البلد، وانكفاء الدولة عن توفير خدمات الطاقة، تنتشر بكثافة ألواح الطاقة الشمسية الباهظة الثمن فوق أسطح المباني، مما يجعل خطر إصابتها بالرصاص واردًا جدًا، في كل مرة تطلق فيها طلقات عشوائية، تضاف لها الأضرار التي قد تلحق بالمباني والجدران والسيارات وكل ما هو ظاهر ومكشوف لهذا الموت المتنقل.

القانون حاضر والتطبيق غائب والوعي ضروري
ردعًا ومحاسبةً لمطلقي الرصاص العشوائي، قام مجلس النواب اللبناني عام 2016 بتشديد العقوبة على مطلقي النار في الهواء، من خلال القانون رقم 71/2016، الذي يجرّم إطلاق عيارات نارية في الهواء ويعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، وتصل العقوبة إلى الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات ولا تتجاوز 15 سنة، وبغرامة من 20 إلى 25 ضعف الحد الأدنى للأجور في حال أدّى إطلاق النار إلى الموت.

رغم تشديد العقوبة وفقًا لقانون المجلس النيابي، إلا أن هذه القوانين بقيت فعليًا حبرًا على ورق، في ظل غياب المؤسسات الأمنية المسؤولة عن ملاحقة وردع المخالفين، وبالتالي تقاعس الدولة عن القيام بواجبها في حماية مواطنيها على أراضيها!

خطورة إطلاق الرصاص العشوائي طالت أيضًا مطار بيروت الدولي، حيث سبق ووصلت رشقات من الرصاص إلى الطيران التابع لشركة الشرق الأوسط للطيران، والتي أفادت في وقت سابق عن إصابة 4 من طائراتها خلال إطلاق الرصاص احتفالًا برأس السنة، الأمر الذي يهدد سلامة المسافرين والوافدين أيضًا.

أمام هذا الواقع، لا سيما الغياب شبه التام للدولة ومؤسساتها، يبقى الأمل معلقًا على حملات التوعية والإرشاد التي تنظمها الجمعيات والمنظمات المعنية بهذا الشأن، فضًلا عن الندوات التي تعقدها بعض الأحزاب، والتأكيد على دور وسائل الإعلام في نشر الوعي بهذا الصدد. والجدير بالذكر أنه سبق وقامت قوى الأمن الداخلي سابقًا بإطلاق حملة تحت عنوان “بتقبل تقتل؟” للتوعية حول مخاطر إطلاق الرصاص الطائش، إلا أن هذه الحملات لم تعط النتائج المرجوة.

شكلت “عادة” إطلاق الرصاص الطائش إذًا، ظاهرة خطرة عابرة لكل الطوائف اللبنانية، أجمعوا على تبنيها ومشاركتها رغم أنهم لم يجتمعوا يومًا على التخلص منها، ولا زال هاجسها يلاحق اللبنانيين أينما وجدوا دون أي تمييز بينهم أو استثناء.

اساسي