كانت الخلافة من بعد الإمام علي (ع) للإمام الحسن (ع)، وكانت الحالة السياسية حينذاك مُشَتَّتة، بعد مسارٍ سياسيّ دام نحو عَقدَين من الزمن، استُخدِمَت فيه كافة الوسائل لتَضليل الوعي السياسي عند الناس. وقد سرَدنا في مقالنا السابق أبرز السِمات التي كانت تَتَّسِمُ بها الحالة السياسية في العَقدَين اللذَين تَلَيا وفاة النبي الأكرم (ص)، سنة 11 للهجرة (632مـ).
رفض معاوية التخلّي عن حُكم الشام في عهد الإمام عَلِيّ، وأصَرَّ على مَوقِفِه بعدها. فقَد جرَّد جيشًا قوامه 60 ألف مقاتل لمواجهة الإمام الحسن في العراق، وذلك بعد 18 يومًا فقط من استشهاد الإمام عَلِيّ.
لم تَكُن الخلافة مطلبًا يعكس الطموح الشخصي للحكم لدى الإمام الحسن، إنّما كانت الخلافة حقًّا جاء في النَص النَبويّ في العَديد من المواضع، وبإجماع كافة المسلمين، كقَولِ النَبيّ “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا”، في نَصِّ صريح عن أحقيّة الحسنَين في تَولّي إمامة الدين بعد خلافة عَلِيّ. لكن الخطّة التي سعى إلى تنفيذها أهل الحُكم المناهضين لخلافة أهل بيت النبي بعد وفاتِه، خلقَت ظرفًا سياسيًا واجتماعيًا مُعَقَّدًا، جرى تَسييله لمصلحة مشاريعهم السياسيّة بغية تحقيق أهدافهم المنشودة، وهي عزل آل بيت النبي عن الحُكم بَعده. وبالتالي كانت الأرضية المُجتَمَعيّة والوعي السياسي الجَمعي ليس لمصلحة الحَسَن بن عَلِيّ، ما جعل المهمّة صعبة أمام الإمام الحسن، وخلق عوائق تحتاج إلى التعامل معها بحكمة نافذة وبصيرة ثاقبة، كي لا يُحَرَّف الدين الحنيف ويجري تشويهه، ليصبح أمام خطر الاندثار فيما بعد.
ومن ناحية أخرى، فإن الهدف الأسمى الذي كان يسعى لتحقيقه الإمام الحسن هو الحفاظ على الدين، وما يمتلك بداخله من خصائص عقائديّة وسياسيّة، إضافةً إلى حفظ المفاهيم والقيَم الدينيّة من محاولات التحريف والتجريف التي كانت تطالها، وصَوْن الأحكام والشرائع الإسلامية من المخاطر المُحدِقة التي كانت تَشوب العالم الإسلامي في ذلك الزمن. ضمن تلك الأُطُر عمل الإمام الحسن، وكان جُلّ اهتمامه في العمل السياسي يَنصَب على السلوك الوقائي من جهة، والذي يجلب استدامة الدين المُحَمَّدِيّ الأصيل من جهة أخرى.
لتحقيق أهدافِه، كان أمام الإمام الحسن هدفان اثنان لا ثالث لهما، إما خيار الذهاب إلى الحرب، أو اتخاذ خيار السِلْم الناجع والمُجدي و”النشيط”، الذي يحفظ قِيَم الدين الإسلامي ويحافظ على كَينونته والخصائص الإنسانية المُثلى التي يَتَمَتَّع بها.
خيار الحرب
في خيار الحرب كان على الإمام الحسن الموازنة بين التضحيات والنتائج، ومن ثم اختيار الخيار الأصْلَح. وفي هذا المضمار، كان الإمام عليه السلام يواجِهُ 3 احتمالات:
أولها: تحقيق النصر العسكري. وهذا ما يَتَطَلَّب الكثير من التضحيات والأثمان لبُلوغِه. إضافة إلى بذل الدماء والأرواح للألوف من شيعة الإمام وأنصاره الخُلَّص، وهم الذين كانوا خلاصة جهود الرسول الأكرم وأمير المؤمنين عليهِما السلام، وقد قُتِل الكثير منهم في ما سبق، وبعضهم على أيدي معاوية في عدد من الحروب.
هذا إضافة إلى التداعيات السلبية التي ستَطال النطاق الاجتماعي والحَيِّز الاقتصادي، وبطبيعة الحال الميدان السياسي، التي سَتَنتُج عن الحرب العسكرية. وقد لا تكون تلك التبِعات، وعلى الأرجح لن تكون، على مستوى مكانة الهدف المحقَّق في الانتصار العسكري، بل إن التداعيات ستفوق الهدف المحقّق من حيث المكانة والاعتبار. فإن الهزيمة العسكرية للمحور المناوئ لأهل البيت لا تعني القضاء على نهجهم، إنما يقتصر الأمر على إسقاط القدرة القتالية لديهم، التي سيتمكّنون من ترميمها واستكمال مشاريعهم عند أول فرصة. على العكس من انتصار معاوية في حينها، والذي كان سيرمي إلى قتل الحسن والحسين، وهذا يعني في العقد الثالث الهجري إبادة الدين الإسلامي.
وعليه، إن انتصار الإمام الحسن في الحرب العسكرية لا يعني تحقيق أهدافه، وهي إحقاق الحق وإبطال الباطل، وسيظلّ مثيرو الشبهات يثيرون الشبهات ويُضَلِّلون الناس في جولة جديدة، وسيُقال إن النصر العسكري لا يعني أن المُنتصر على حَق. وبالتالي فإن هدف الإمام الحسن لن يثبت من خلال المواجهة العسكرية المباشرة مع معاوية.
ثانيها: عدم تحقيق نصر حاسم لأيِّ من الطرفين، ما يعني بقاء الحال على حالها، وذهاب التضحيات التي سيقدّمها المؤمنون في الحروب التي ستُخاض، والتي ستكون كبيرة، بلا نتائج، أو بالحدّ الأدنى ستكون النتائج غير متكافئة مع حجم التضحيات، في ظل استكمال النشاط التخريبي للمشروع الاموي.
ثالثها: انتصار معاوية في الحرب، وهو الذي سيشكّل كارثة في ذلك الوقت على المشروع الإسلامي المُحَمَّدي، وسيُبذَل من خلالها خيرة الدماء التي تُشكِّل سندًا حاضرًا ومستقبليًا للإمام الحسن، والإمام الحسين من بعده، خسارة أولئك الذين يساعدون في دحض الادعاءات الباطلة لأتباع معاوية، ويشاركون في الحرب الإعلامية المضادة إلى جانب أهل بيت النبيّ في تلك المرحلة، تُعَدّ هدرًا لا طائل منه.
وعلى جانب التداعيات الاجتماعية والسياسية، فسوف تكون جسيمة وخطيرة جدًا، ولا يمكن تفادي تداعياتها التي قد تكون قاتلة للمشروع الإسلامي، وعاملًا في خسارته المعركة الكُبرى ضد أعداء الدين.
أما الخطورة الكُبرى بتلك الفرضية، فتَكمُن في “استئصال” أهل بيت النبوّة عبر قتلهم، ثم الإبادة المحتّمة لجميع أتباعهم وشِيَعِهِم والسائرين على خُطاهُم. وهذه ستكون إبادة كاملة موصوفة، تقضي على آمال البناء الإسلامي والكيان الإنساني الذي يخصّ كافة صنوف البشرية وليس فقط أهالي شبه الجزيرة العربية والخليج الفارسي. ولو انتصر معاوية على الحسن، فسيَستَعين بسَطوَته وماله لقلب الحقائق وتشويه الصورة بشكل كامل، وعلاوة على ذلك دفن ميراث الرسول الأكرم والعبث بأحكام الدين الإسلامي والقضاء على قيَمِه ليَستَبدلها بقيَم أخرى لا تمت إلى الإسلام، ولا إلى الإنسان، بِصِلة.
هكذا، فقد كان خيار الحرب غير مجدٍ أمام الإمام المجتبى، وهو في هذه الحالة المُعَقَّدة لم يكن لديه سوى خيار السِلم مع معاوية، لكن من دون أن يعني هذا السلم على أنه استسلام أو انتصار للمشروع الأموي، إنما استطاع الحَسَن أن يحوّل المسار السياسي التفاهُمي من خيار استسلام إلى لبنَة تنظيميّة ستؤدّي إلى نزع الشرعية عن معاوية بشكل جليّ، وانتزاع الأحقيّة عن تولّي ابنه يزيد الخلافة من بعده، ما سيجعل معركة كربلاء، بصورة صريحة وصارخة، اشتباكًا جليًا بين الحق الذي سيمثّله الحسين، والباطل الذي سيمثله يزيد. وهذا ما سَنَتَطَرّق إليه في الجزء الأخير من هذه المشهديّة.