في لحظة الانفجار التي وثّقتها كاميرات كثيرة، من جميع الزوايا، شاهد الناجون وكلّ الناس تلك الغيمة التي تشكّلت واتسعت وغمرت بيروت بدخان الفجيعة وغبار المواد القاتلة، وبعض القتل كلام يفتري ويضلّل.
ومنذ اللحظة الأولى للانفجار، هُرع أهل الافتراء والتضليل لتوجيه سمومهم اتهامًا وتلفيقًا ناحية حزب الله، ما بدا كحملة مجهّزة سلفًا للاستثمار في كارثة قيل فيها كارثة العصر. انفجار مرفأ بيروت الذي يُعدّ ثاني أضخم الانفجارات بعد انفجار قنبلة هيروشيما، تحوّل قبل مغيب شمس يومه إلى أوسع ملعب للاستثمار السياسي بجثث الضحايا وبقلوب المفجوعين من هول ما جرى.
موجة عارمة من التضليل الممنهج غمرت معظم المقاربات التي تناولت كارثة انفجار المرفأ. ولعل أبشعها تلك التي استخدمت فجيعة أهالي الضحايا بوابة للعبور إلى الاستثمار السياسي واستهداف حزب الله. ما فعله هؤلاء يشبه التمترس خلف دشمة مكوّنة من جروح العائلات المفجوعة واطلاق نار الاتهامات الموجّهة والمحضّرة أمريكيًا.
الأمر بالغ الحساسية حين يحرص المرء على مقاربة كلّ حديث عن أهالي الضحايا بحدّ أدنى من الأخلاق، ولكن هل أهالي الضحايا اليوم هم كتلة واحدة؟ الجواب: أبدًا. يمكن لأي متابع أن يميّز بين أهالٍ أضافت المماطلة في التحقيقات إلى وجعهم مواجع، وبين اهالٍ استثمر فيهم مشغّلٌ يتعمّد التضليل وتماهوا معه بحيث أصبحوا وإياه واحدًا. وليم نون مثالًا، فالشاب الذي فقد أخاه في الانفجار، تحوّل إلى ضيف دائم لدى الإعلام العوكري، الذي يقدّمه كبطل مناضل. يجزم نون مثلًا أن ملكية النيترات الذي انفجر في المرفأ تعود إلى حزب الله، كما يجزم أن كلّ ما حدث في البلد منذ ٢٠٠٥ هو من فعل حزب الله. لا يُسأل الفتى عن أدلّة، فهو شقيق ضحية! لا يمكن أن يقال له أنت مضلِّل ومسوّق لأكاذيب واتهامات باطلة، فكونه من “أهل الضحايا” يبدو وكأنه يكسبه حصانة ما. حصانة الضحية. كلّ أقوال نون تأتي في إطار تضليلي مملوء بالحقد، ولشدة انكشاف هشاشتها تشبه إلى حدّ بعيد قول عماد كشلي ذات عرض تلفزيونيّ يستغبي الجمهور: “كنت طلّع للحزب النيترات عالجنوب”.
لا فرق بين نون وكشلي إذًا، سوى أنّ الأوّل يتمتّع بحصانة شقيق الضحية، فلا يُرمى بالسخرية التي نالها الثاني.
في المقلب الثاني، ثمّة أهالي ضحايا ما زالوا يحملون صور أحبتهم الذين قضوا في الانفجار، تغلب صوتهم كسرة الفقد، يرفضون أن يستثمر أحد في جرحهم، يعرفون أن اللامنطق الذي يجري على ألسنة التضليل لن يعيد لهم حقًّا. هؤلاء أجمل وأنقى من أن يقبلوا بتحويل دم أولادهم إلى فرصة أميركية، ولذلك لا يستضيفهم الاعلام الذي يعتاش من الاستثمار بالجثث، لا يصغي لمطالبتهم بالاسراع في التحقيق ويُعاملوا وكأنّهم أهالي ضحايا “درجة ثانية”.
أهالي الضحايا، اليوم بعد مرور ٣ سنوات على الانفجار، ليسوا في خانة واحدة؛ منهم من اختار لسبب أو لآخر زجّ جرحه في بازار الكذب والافتراء المسمّى بالاتهام السياسي، ومنهم من صمت بعيدًا عن ضجّة ما بعد الكارثة، ومنهم من لم يزل ينتظر أن يتخّذ مسار التحقيق مجرى منطقيًا يودي إلى كشف ما جرى. منهم من حوّل الجرح ساترًا يطلق من خلفه كلّ الكاذبين رصاص التضليل، ومنهم من نأى بجرحه عن بازارات الاعلام العوكري.
أهالي الضحايا ليسوا واحدًا.. أبدًا.