د. أحمد الشامي – خاص الناشر |
تعدّ الثقافة في المجتمعات البشرية، هي الأكثر تأثيرًا في تلاحمها وتفككها، سلمها وحربها، رقيّها وتخلّفها، حتى أمكن القول إنّها القوة الأكثر دافعيّة لتحريك التاريخ. وفيما المسار التصاعدي لتاريخ البشرية، هو بالضرورة انعكاس لثقافات ذات قدرات غنيّة ما أمكنها نحو صناعة التطور والتقدم، لكن تاريخ البشرية أشار إلى ثقافات استطاعت أن تفرض ريادتها بقوة السلاح والاقتصاد، وراحت تحدّد للبشرية ما يجب أن تسلكه لتبلغ آمالها وتطلعاتها.
ماذا يعني ذلك؟ يعني بوضوح، أنّه في لحظة الركون إلى مسألة التفاعل الثقافي بوصفه المجال الحيوي والإلزامي في خلق البيئة المناسبة لنمو الثقافات وإخراجها من دائرة الجمود والتقوقع، فإنّ هذا التفاعل لم يأخذ على الدوام بعده التكاملي، بل إنه جليّ بمشهديته لأعين الباحثين عن الحقيقة، حيث يكشف عن بعد آخر لهذا التفاعل، يتخذ في عنفيته حد الحرب على العقول وغزوها.
أليس في ذلك مبالغة؟ أين المبالغة وأغلب الحروب التي شهدتها البشرية في تاريخها، ولا تزال، يلاحظ أن الغلبة الثقافيّة في رأس قائمة أهدافها، سواء أعلن عن ذلك أم أخفي. حتى عندما تضع الحرب العسكرية أوزارها، فإن اشتعال الجبهات الثقافية لا يتوقف، بل يزداد ضراوة.
يدرك الغرب أنّ الغلبة العسكرية لا تعبّر عن حقيقة الغلبة، فهذه لن تتحقق إذا لم تسقط ثقافة الآخر وتنهزم. وصحيح أنّ الثقافة هي آخر ما يهزم، ولكن إذا ما هزمت، يصبح معها الحديث عن مغادرة الفئة المهزومة من التاريخ أكثر واقعية.
أين نحن من هذه الحرب؟ هنا يجدر بنا التسليم أنّ ثقافتنا رائدة، فيها من القوّة ما يجعلها النموذج والقدوة للأخذ بيد البشرية نحو ما تصبو إليه نزعتها الفطرية من كمال، وما افتقادنا القدرة على أخذ مكاننا الطبيعي في صناعة التاريخ، إلّا لأنّ البعض منّا استوهم وأوهمنا في آن، بأنّ الهزائم والنكسات التي لحقت بنا خلال حقبات مضت، إنّما بسبب عجز ذاتي فينا لا يمكن تجاوزه إلاّ بإرادة غير اعتيادية، وما علينا إلاّ الانتظار. ولذلك، لمّا تجاوزنا هذا الموروث الخاطئ والموغل في عمق ثقافتنا، صرنا نحدث هذه التحولات المذهلة، ونصنع النصر تلو النصر.
وكذلك، صرنا في عين الاستهداف أكثر، إذ لم يعد خافيًا على من يقرأ تجربتنا المقاومة، تلمّس حجم الارتباط العضوي بين بلوغنا هذا الحضور المؤثر، وبين قيامنا بضخّ الحياة في مخزوننا الأصيل في العقائد والقيم. وبالتالي، لم يعد أمام العدو من مدخلية ليعيدنا إلى ماضينا المؤلم، إلّا في نيله من أصالة هذا المخزون، عبر حرب يتغلغل من خلالها – بشكل ناعم- في أنحاء جسمنا ليقتل ما فيه من قدرات مناعية ومقاومة.
وماذا علينا أن نفعل؟ إنّ خصمنا شرس ومتمكن، لذلك، يجدر بنا مغادرة الأساليب التقليدية في المواجهة، وملاقاته في الميادين التي يتقن فنّها، والتي بفضلها، يتمكّن من اختراقنا في أكثر من محور ويسجّل الأهداف في مرمانا.
هي دعوة صريحة كي نتصالح مع أنفسنا ونقرأ ذاتنا بأعيننا، فنضع يدنا على مكامن القوة لنعظم شأنها، وعلى مسارب الضعف لنحاصرها ونبدد أثرها.
أليس من المؤلم، أن نستدل على ذاتنا بعدسة عدونا؟ فهو بما يملكه من قدرات تمكّنه من العقول والحواس، إنّما يريد صياغة تعريف لذاتنا يعيدنا من خلالها إلى تلك الصورة الباهتة الخالية من عناصر القدرة والمنعة.
تلك المسؤولية الأهم على النخب الثقافية في مجتمع المقاومة، بوصفهم ضباط هذه الحرب وأن أمر هذه الجبهة بيدهم.