سُئِلَ الإمام “الحسن” (ع) عن رأيه في السياسة، فقال: “هي أن تراعي حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات. فأما حقوق الله، فأداء ما طَلَب، والاجتناب عما نهى. وأما حقوق الأحياء، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخر عن خدمة أُمّتِك، وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حاد عن الطريق السوي. وأما حقوق الأموات، فهي أن تذكر خيراتهم، وتتغاضى عن مساوئهم، فإن لهم ربًا يحاسِبهم”. (الحياة السياسية للإمام الحسن، السيد جعفر مرتضى)
إن معركة كربلاء، التي حدثت في محرم عام 61 هـ (680 مـ)، ليست حدثًا مُجَرَّدًا من السياق التاريخي، وهي ليست واقعة منفصلة عن الصراع السياسي الذي فُرِضَ بعد وفاة الرسول الأكرم (ص) قبل ذلك بخمسين عامًا. تلك الأعوام الخمسون كانت فترة للتأسيس وإرساء القواعد العقائدية والفكرية والسياسية، بغية أن تَجِد سبيلها إلى فكر ووعي الأمم والأجيال المتعاقبة. ويُعتَبَر ما حصل بعد ظهر يوم العاشر من المحرم في ذلك العام، المُحَصِّلة الأَمثَل والأكثر نموذجيّة منذ أن سلب معاوية بن أبي سفيان الحكم، ومدَّهُ من بعده إلى ابنه يزيد بصيغة غير شرعية كما سنرى فيما بعد. مع أن التضحية كانت عظيمة ولم يكن لها مثيل في التاريخ، إلا أن الهدف، وهو حفظ الإسلام المُحَمَّديّ الأصيل، كان عظيمًا بحجم ما قدمه الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه من قربان جسيم قدّموا فيه الأرواح والأنفُس نُصرَة للدين القويم.
باكِرًا شهد الإمام الحسن المجتبى محاولات التحريف التي طالت إسلام الرسول الأكرم، وما تضمّنت من تضليل وتشويه عاناه آل بيت الرسول من بعده. وقد ورث الإمام الحسن بعد استشهاد والده أمير المؤمنين علي (ع) المسؤولية، وأصبح في المواجهة المباشرة مع معاوية.
الحالة السفيانيّة لم تكن هي الأخرى منفصلة عن السياق التاريخي الذي سبقها، إنما شكّلت نتاج مسار سياسي “عدواني” انطلق بعد وفاة النبي كما ذكرنا سالفًا. منذ البداية كانت الرغبة بإبعاد أمر الخلافة عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان بنو أميّة هم الأكثر جرأة على اتّخاذ هذا المسار وتأدية صياغته ورعاية نشأته، لكن الأمر كان صعبًا وغير مقبول في المراحل الأولى، نظرًا لخصائص تلك الأخيرة وامتلاكها عددًا من الصحابة الكبار، التي كانت ستؤول إليهم الأمور في حال نجاح تحييد عَلِيّ عن الحُكْم والخلافة، إضافة إلى أن معاوية كان من أبناء الطلقاء ولا إمكانية لِتَولّيه أمر الخلافة حينها. وعليه فإن إمكانيّة تَنصيبِه تحتاج إلى توطئة وتجهيز أرضية مناسبة لذلك.
مثَّلَت أرض بلاد الشام، التي كان يحكمها معاوية لعقود من الزمن، نواته الصلبة التي اتَّكَأ عليها لتنفيذ مَخَطَّط السيطرة على الحكم، ذلك لأن أهل الشام في تلك الفترة كانوا قد تربّوا في كنف معاوية، وثقَّفَهُم بمفاهيمه ونشَّأَهُم على محبّته. وفي عهد الإمام عَلِيّ رفض معاوية التخلّي عن حكم الشام، وأعلن التَمَرًّد السياسي على حكم أمير المؤمنين، ما أدّى إلى الحروب وزعزعة الاستقرار في بلاد الخلافة الاسلامية.
مسار سياسي طويل سبق تلك الحالة، مارس من خلالها أهل الحُكْم، على مدى 3 عقود، حربًا “تركيبيّة” تحمل طابعًا ناعمًا، استُخدِمَت من خلالها كافة الوسائل الإعلاميّة والثقافية والفكرية والسياسية، ضد المعارضة التي نَشَأَت عقب وفاة النبي الأكرم، تلك التي شهِدَت على ما أَوصى به صلى الله عليه وآله في 17 ذي الحجة من السنة العاشرة بعد الهجرة، بتَنصيب الإمام عَلِيّ بن أبي طالب خليفة على المسلمين من بَعدِه. وفي ما يلي نعرض أبرز الممارسات المُرتَكبة:
1 – بعث اليأس في نفوس خصوم الحُكْم، وخصوصًا في نفوس الهاشميين، بغية القضاء على أي طموح لديهم بتوَلّي الإمام علي خلافة المسلمين، وتعاملوا معهم على أساس أن المسألة شخصية ترتبط بشخص الإمام علي. وهذا خلاف الحقيقة بالمطلق، إذ إن الطموح السياسي للإمام علي، ومن بعده الحسن والحسين، لا يعدو كونه وسيلة لإحقاق العدل الإسلامي وحماية الدين الحنيف من المكائد التي تحيط بكيانه الأصيل.
2 – تضليل الوعي الجَمعي عند الناس، وإذكاء عقائد ترتكز على لزوم الخضوع إلى الحاكم مهما كان ظالمًا وعاتيًا، وأن الإنسان مُجبر على كل حركة ومُسَيّرً في كل المواقف، وبالتالي فإن التحرّك ضد حكام الجور لا يُجدي نَفعًا، وبالتالي تَشتيت الوعي السياسي لدى القَوم وتَسييرهُم نحو الخنوع والسكوت على الظلم لكي يصبحوا أداةً مطواعة في يَد الحاكم، ومن ناحية أخرى، إرساء مفاهيم مخادعة في عقول الناس، مثال أن “الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وفظائع” وما شاكل.
3 – ارتكاب عملية تشويه عاتية ضد أنصار الإمام عَلِيّ وتحريف نواياهم. فهُم لم يوفّروا مناسبة من دون تضليل الرأي العام والترويج للسرديّة المخادِعة التي تُشَتِّت الانتباه عن السلوك الفاسد الذي كان يمارسه الحُكّام في ذلك الزمَن.
4 – انتِزاع القدسيّة عن هالة رسول الله، والعمل على تقليص نسبة الاحترام له في المجتمع وتفضيل الخليفة عليه.
5 – إبعاد المقرّبين من الامام علي عن مراكز النفوذ في مواقع الحكم، وحرمان أنصاره من تَبَوّؤ المراكز الحسّاسة في الدولة، إضافةً إلى حرمانهم من أبسط أنواع الرعاية المنوطة بالدولة اتجاه رعاياها المواطنين، واستخدام المال لإسكات المُعتَرِضين.
6 – تَعويم معاوية بن أبي سفيان والترويج له وتجميل صورته أمام الرأي العام، وذلك لِتهيئة الأجواء له للوصول إلى الحُكم من دون عوائق.
7 – نشر الأحاديث غير الصحيحة وإسنادها إلى النبي (ص). وقد نَسبوا إليه تفضيله قبيلة قُريش على غيرها، وأن “النبوّة والخلافة لا تجتمعان في بيت واحد” في إشارة إلى عدم أحقيّة الإمام علي بالحُكم.
تركت تلك الإجراءات آثارًا جَمّة داخل المجتمع الإسلامي، مما مَهَّدَ الطريق لاستِحواذ معاوية على الحكم سنة 41 للهجرة، مُفتَتِحًا مسارًا سياسيًا آخر ومرحلة جديدة بدأت فصولها في ذلك العام، وامتَدَّت إلى نحو 20 عامًا. هذا ما سنَتَطَرَّق إليه في الجزء الثاني من هذه السلسلة، حول الظروف التي أدَّت إلى إبرام التفاهم المعروف باسم “الصُلح”، وخصائص تلك المرحلة، إضافةً إلى السلوك السياسي الذي سَلَكَه الإمام الحسن المجتبى في مواجهة معاوية.