ما زالت تتردد في الذاكرة أصداء أصوات الانفجارات المدوية حين استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية المغيرة ليلًا الجسور في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت وكانت بمثابة إعلان حربٍ مفتوحة لا هوادة فيها على لبنان وشعبه ومقاومته دامت 33 يومًا. وكان واضحًا أن قادة العدو الحمقى قد قرروا أخذ طريقٍ وعرٍ وصعبٍ في محاولة تغيير المعادلة التي طرحها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ظهيرة يوم الثاني عشر من تمّوز من العام 2006 حين قال: “الأسرى يعودون بتفاوض غير مباشر والتبادل، العالم يريد التهدئة جاهزون للتهدئة، العالم يريد المواجهة، جاهزون للذهاب في المواجهة إلى أبعد حد، وإذا اختاروا المواجهة عليهم أن يتوقعوا المفاجآت، نحن لا نخشى من هذه المواجهة ولا نتردد فيها..”.
يومها ابتدأت تتتالى حماقات العدو في الزجّ بقواته في أرض المعركة والتي قدِّرت بداية بــ 10 آلاف جندي ومئات الدبابات والآليات وازداد عديدها خلال مراحل الحرب حتى وصلت إلى حدود الــ 30 ألف جندي في مواجهة بضع مئات من مقاتلي حزب الله حين إعلان وقف إطلاق النار في الرابع عشر من آب 2006. وتوالت السقطات الميدانية وشابت الأداء الإسرائيلي برمَّته الفوضوية والعشوائية في القرارات والخطط الميدانية وتبادل قادة الجيش التُّهم واستلت الخناجر بينهم طعنًا يمنةً ويسرةً ورميًا للمسؤوليات على الفشل الذريع في أكثر من قاطعٍ على الجبهة (ليلة السكاكين الشهيرة كما وصفها بعض الجنرالات الإسرائيليين) في ما يشبه بعملية تطهيرٍ للجبهة من القادة المتردِّدين في الاجتياح البرّي وأزيح الجنرال “عودي آدم” قائد ما يسمى بالمنطقة الشمالية وتمَّ تعيين الجنرال “موشيه كابلينسكي” مكانه منسِّقًا للعمليات وممثلًا لرئاسة الأركان في دلالة واضحة على فوضوية وارتباك وازدواجية القرار الميداني، كما أزيح الجنرال “غال هيرش” قائد الفرقة 91 “فرقة الجليل” على خلفية إخفاقه في منع أسر الجنديين الإسرائيليين ومقتل 8 جنود آخرين في بداية العملية العسكرية، مما انعكس انعداما في الثقة وإحباطًا وتذبذبًا وعشوائية في أداء القوات المتهيئة والمتهيِّبة أصلًا للقتال على جميع محاور التقدّم في عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الراس وعيناتا والطيري وكونين والعديسة والطيبة نزولًا نحو وادي الحجير والخيام وسهلها وكفركلا وصولًا إلى مرجعيون والتي أدّت إلى سقوط خسائر فادحة في دبابات الميركافا من الجيل الرابع قدِّرت بــ 40 دبابة وآلية تم تدميرها في ما سمي بــ “مقبرة الدبابات” في وادي الحجير ومقتل وجرح العديد من جنود العدو وضباطه.
استشعر الأمريكي والغرب ومعه الإسرائيلي وبعض من دول الرجعية العربية خطورة دور حزب الله ومقاومته وتأثيراته على مستوى المنطقة برمَّتها من فلسطين والدعم الكبير الذي نالته قوى المقاومة الحيَّة في الأرض المحتلة وقطاع غزّة واستلهام الجماهير هناك تجربة المقاومة في لبنان بعد الاندحار الإسرائيلي في العام 2000م مرورًا بالعراق الذي كان يعاني من إرهاب الاحتلال الأمريكي منذ العام 2003 وفظاعة جرائمه في الطرقات والمعتقلات ونشوء حركات مقاومة عراقية استفادت من تجربة المقاومة في لبنان ضد الاحتلال وحققت إنجازات كبيرة وعظيمة بل ومؤلمة للأمريكيين في العراق والتي لمس الإسرائيلي في عمليات المقاومة في فلسطين والأمريكي في العراق وشاهدوا بأمِّ العين الأيادي الخفية للمقاومة اللبنانية وبصماتها بعد كل استهداف لقواتهم المُحتلَّة، وزيادة على ذلك بروز دور المقاومة في لبنان بوجه هذه التهديدات مجتمعة بعد الأحداث الدراماتيكية التي رافقت مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان ومحاولة بعض القوى التي تسير في الفلك الأمريكي الغربي والعربي الانقلاب على التوازنات السياسية وأخذ البلاد إلى محورٍ معادٍ لحركة المقاومة وشعبها، والتي استطاع حزب الله وبحنكة وطول صبرٍ ودراية امتصاص هذه الحركة الانقلابية وإفشالها ومنعهم من تحقيق أهدافهم والإمساك بزمام المبادرة السياسية مع حلفائه من الوطنيين اللبنانيين.
رفعت سقوف العدوان وتمَّت إطالة أمده وأصبحت أهدافه ذات طبيعة أممية عالمية تتواطأ وتتقاطع فيها مصالح دول الاستكبار ووضعت على أساسها خارطة طريق ولائحة أهداف أولها القضاء على ذاك النموذج النقي والساطع والصادق لهذه المقاومة وتحطيم صورتها في عقل وروح الشعوب العربية والإسلامية والتحررية حول العالم وضرب كل الفرص لاستلهام هذه التجربة الناصعة، مضافًا إلى تلك الأهداف أيضًا وأهمُّها رسم خرائط جديدة لشرق أوسطٍ جديد أخذت بزمامها الإدارة الأمريكية ويحاكي نظرة الأمريكي لوجود إسرائيل في المنطقة ووظيفة زرعها ووجودها في الجسم العربي ودورها المستقبلي بعد أن تم القضاء على وهم إسرائيل الكبرى وبدء العمل على أكذوبة إسرائيل العظمى.
إن الأهداف المرتجاة من هذه الحرب إن على المستوى الميداني التكتي والآني أم على المستوى السياسي والإستراتيجي سقطت جميعها واندثرت أوهامها بل واستطاعت فيها المقاومة تحقيق أهدافٍ إستراتيجية وأخرى تكتيكية قضت على آمال العدو وأولها وأهمها إسقاط مشروع سحق المقاومة والقضاء عليها حيث تمَّ تحويل التهديدات التي كانت على المستوى الوجودي إلى فرصٍ حققت فيها المقاومة إنجازات وراكمتها كثيرًا وحفرت عميقًا في الوعي الصهيوني وستبقى لعقودٍ قادمة إن عاش هذا الكيان حتى ذلك الحين، كما ورسّخت ميزان الردع الإستراتيجي مع العدو وأكَّدت على الهزيمة المذلة ميدانيًا وسياسيًا والتي دوِّنت في سجلَّات تاريخ وأرشيف الكيان الغاصب و”لجنة فينوغراد” الشهيرة مثال وصفحات تحقيقاتها وشهاداتها فنَّدت إخفاقات الحكومة الإسرائيلية وجيش العدو وهزائمه أمام مجموعة من المقاتلين وأحدثت زلزالًا سياسيًّا داخل المجتمع الإسرائيلي وأوجدت اهتزازا في ثقة الجمهور بالجيش والقيادة السياسية، وكذا ثقة الجيش وجنرالاته بالقيادة السياسية المترددة والضعيفة وأطلقت الدعوات لاستقالة حكومة “إيهود أولمرت” على إثر الفشل الميداني وما زالت وقائعها مدوّية تجولُ في عقل القادة الإسرائيليين حتى يومنا هذا.
في الأيام الأخيرة من الحرب عاد العدو إلى المربَّعِ الأول لنصائح السيد نصر الله حين قال: “الأسرى يعودون فقط بالتبادل والسلام”، واستمرت تداعيات الهزيمة لأشهر لاحقة بعد العدوان وأدَّت إلى سلسلة من الاستقالات أهمُّها استقالة رئيس أركان جيش الاحتلال آنذاك “دان حالوتس” بضغوط من ضباطٍ سابقين ومع تشكيل لجنة التحقيق المذكورة معلنًا تحمُّله مسؤولية الإخفاقات في الحرب على لبنان وأيضًا على إثر الفضائح التي طالته وتمَّ كشفها ومنها انشغاله باستثماراته في البورصة الإسرائيلية أول أيام العدوان والتي شهدت أسهمها تراجعًا وخسائر فادحة.
17 عامًا مرَّت على العدوان الأثيم واليوم يشهد الكيان مشكلة حادَّة سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية وحتى بنيوية مع صراعات داخلية وانقسامات عموديَّة تضعه على محك الزوال والتفكك لأول مرة منذ تاريخ نشأته في العام 1948، مع تآكل في الردع والجرأة على أخذ القرار لدى حكومة بنيامين نتانياهو وائتلافه ذي التركيبة العجيبة مع غيابٍ شبه تام لذاك الجيل المؤسس للكيان المتحفِّز دومًا للجريمة والدماء وللتوسع والاستيطان وقتل العرب، فالمستوى الموجود حاليًا من القادة الصهاينة هزيل القدرة والاستعداد طبعًا مع نزعة عنصرية إجرامية بخلفية تلمودية تجاه العرب والمسلمين وارتفاع في مستوى الحماقة السياسية والأمنية من رأس الهرم في هذه الحكومة حتى آخر بغيضٍ عنصريٍّ فيها. ويتجلّى هذا الانقسام بوضوح مع بروز انعدام في الثقة مجدَّدًا وحالات “تمرُّدٍ” ورفضٍ معتدٍّ به للخدمة العسكرية في مختلف تشكيلات الجيش الصهيوني وهذا الأمر ملفتٌ في وحدات النخبة، والكيان الغاصب كما قال يومًا سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله: “إسرائيل من دون جيش لا تبقى” مترافقةً مع إضراباتٍ واعتصاماتٍ في الساحات وقطعٍ للطرقات ومنعٍ للمؤسسات العامَّةِ عن العمل، مضافًا إليها فشلٌ ذريع في مواجهة صمود غزَّة وجرأة المقاومين الاستثنائية في الضفّة الغربية وعجزٌ صريح عن السيطرة على الوضع القائم، فتراهم أكثر ميلًا نحو الخضوعِ والاستكانة والانكفاء وابتلاع الفشل ومرارة الهزيمة ومرغمين على الاقتناع بِقصرِ ذات اليد في المواجهة.
غبيٌّ في هذا الزمن من يسعى لمواجهة حزب الله وتحديدًا في هذه الأيام من محرَّم الحرام، بل يرتكبُ الخطأ الفادح والقاتل حيث وكالعادة فإنَّ مستوى الجهوزية والاندفاع والحافزية والاستعداد للتضحية والشهادة عالٍ جدًّا لدى المقاومين وشعب المقاومة، وما يجري الآن على الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة وتحديدًا في قضية الخيمتين في شبعا والنقاط المتحفَّظ عليها من رأس الناقورة إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي أشبه بمعركةٍ على رقعة شطرنج تُسجَّلُ فيها النقاط بشكلٍ غير منظور وتتداخل فيها خُططٌ وأخرى مضادَّة مع كرٍّ وفرٍّ ومناورات التفافية في سيرٍ على حدِّ سكِّين الاشتباك والاحتمالات كثيرة فيها تنتظرُ دعسةً ناقصةً من أحد أولئك الحمقى حيث ووفقًا لموازين الردع قد تؤدِّي إلى نتائجٍ من المحتوم لن تكون في صالح العدو حين استنفاده للوقت المتاح له للتراجع عن مناوراته الفارغة والمكشوفة في قضم الأرض حينًا والتهديد بالحربِ حينًا آخر، وقتها ستكون الكلمة الأخيرة للمقاومة: كِش ملِك.