سبعة عشر عامًا مرّت على العدوان الصهيوني في العام 2006 وما زالت صور من المأساة ماثلة في الأذهان والعيون المليئة بالدموع لما جرى فيه من مآسٍ وآلام على الشعب اللبناني نتيجة عدوانية الكيان الغاصب وإجرامه وحقده، عدوانٌ استخدمت فيه كل صنوف الأسلحة وأكثرها قتلًا وفتكًا وتدميرًا بهدف النيل من شعب لبنان ومقاومته وسعيًا لكسر إرادته على الصمود والمواجهة.
أمام عجزه وفشله في المواجهة الميدانية أمام صمود المقاومين واستبسالهم على مختلف الجبهات ومحاور التقدم في الجنوب اللبناني مارست الآلة الحربية الإسرائيلية عملية تدمير ممنهجة للقرى والبلدات الجنوبية لم يسلم منها لا البشر ولا الحجر، دمرت القرى والبلدات وخربت الحقول الزراعية واستهدفت البنى التحتية والجسور والطرقات والمؤسسات العامة والخاصة والمؤسسات التربوية ومنشآت توليد الكهرباء وشبكاتها ومستودعات النفط ومحطات البنزين ومعامل الإنتاج والتصنيع، كما واستهدف مطار بيروت الدولي وأخرج من الخدمة وأحرقت خزانات الوقود التابعة له وخرِّبت مدارج الإقلاع والهبوط ومنشآت الخدمات فيه.
تمادى العدوان في إجرامه وحقده وتسبَّب في تلويث شواطئ لبنان وساحله باستهداف مستودعات النفط الخاصة بمحطات توليد الطاقة في الجية والتي صنِّفت عالميًا واحدة من أخطر حوادث التلوث البيئي التي هددت البشرية عبر التاريخ.
هذا العدوان الذي تم بدعم أمريكي وغربي صريح وواضح وتآمر عربي بالصمت والتحامل على الشعب اللبناني ومقاومته جعل العدو الإسرائيلي أكثر تماديًا وحقدًا وإجرامًا حيث نفذ العديد من المجازر ضد المدنيين الآمنين وكثيرٌ منهم قتلوا بسياراتهم على الطرقات وهم يهربون من جحيم القصف الظالم إلى مناطق أكثر أمنًا وتحت أعين المجتمع الدولي وقواته المنتدبة إلى جنوب لبنان لحماية السكان على إثر اجتياح العام 1978.
وفي واحدة من جرائمه التي ستبقى تلطِّخ تاريخ هذا الكيان الغاصب مدى الزمن استخدامه للأسلحة الفتاكة والتي تصنف أسلحةً محرَّمةً دوليًا وفقًا لاتفاقيات جينيف وبروتوكولاتها، من اليورانيوم المنضب في أنواع مختلفة من الذخائر المستخدمة، وحفرة “الجلاحية” في بلدة الخيام الجنوبية خير دليل ومثال على استخدامه، والغارة التي استهدفت المدنيين تحت جسر الرميلة والجثث المتفحمة والسوداء لاثني عشر شهيدًا مدنيًّا والتي نقلت إلى مستشفيات صيدا أيضًا، دليلٌ ساطعٌ على استخدام أنواع من الذخائر غير معروفة في حينها، إلى القذائف الانشطارية والعنقودية التي لجأ إلى استخدامها العدو حين يأسه من تغيير مسار الحرب لصالحه وتحقيق أهداف عدوانه بهدف إلحاق الضرر والأذى ولعقود من الزمن بالجنوبيين الصامدين.
أعطيت الأوامر في الساعات الــ 72 الأخيرة من العدوان بقصف القرى والبلدات في الجنوب اللبناني وأمطرَت مرابض المدفعية ومنصات الصواريخ والطائرات الحربية عشرات القرى والبلدات بالقذائف والصواريخ ذات الذخائر العنقودية حتى ذكرت بعض التقارير أن مستودعات الجيش الصهيوني أُفرغت من هذه الذخائر بالكامل في محاولة للتخلُّصِ منها والتي يعود تصنيع وتخزين البعض منها إلى سبعينيات القرن الماضي. وأيضًا وإمعانًا في الجريمة تم إنشاء جسر جوي خلال الحرب عبر إحدى الدول الأوروبية لنقل هذا النوع من الذخائر تحديدًا إلى الكيان الإسرائيلي.
وفي العودة إلى الحقيقة المرّة، عامٌ بعد عام والمعاناة لا زالت قائمة وحاضرة في حياة الجنوبيين بسبب المخلفات من الذخائر غير المنفجرة من قذائف مدفعية وصواريخ طائرات وألغام أرضية وقنابل عنقودية خلّفها العدوان الإسرائيلي طيلة سنين احتلاله واعتداءاته المتكررة والتي توِّجت بالجريمة الكبرى خلال عدوان تموز وآب 2006 ووفق تقارير الأمم المتحدة التي قدّرت أنَّ أكثر من أربعة ملايين قنبلة عنقودية ألقيت وبشكل غير مسبوق في تاريخ الحروب وفقًا للمساحة الجغرافية المستهدفة والتي نسبيًا تفوق ما ألقي على أفغانستان بين عامي 2001 – 2002 وعلى العراق خلال احتلاله في العام 2003م أو في حرب يوغسلافيا وتحديدًا على صربيا وكوسوفو والجبل الأسود في العام 1999م في مقارنة نسبية ما بين مساحات الدول وعدد سكانها ومساحة لبنان وعدد سكانه والمنطقة الجغرافية التي استهدفت بالعدوان. هذه القنابل العنقودية الفتاكة مضافًا إليها آلاف الأطنان من القذائف والصواريخ من مختلف الأنواع والأحجام والعيارات التي ألقيت على ما لا يقل عن 155 قرية وبلدة جنوبية لم تسلم منها البيوت الآمنة وغرف نوم الأطفال فيها وحدائقها والحقول والبساتين والمؤسسات التربوية وملاعبها بهدف قتل كل ما له علاقة بالحياة في تلك البلدات ومنع النازحين عنها من العودة إليها وإعادة بنائها بعد تدميرها، ويضاف إلى سجل العدو الصهيوني وإجرامه تركه لمئات آلاف الألغام الأرضية في المنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة بعد اندحاره المذِل في العام 2000.
ما زالت عمليات الإزالة والتنظيف ناشطة مع تقدم في النتائج المحقّقة في العام 2022 رغم محدودية الدعم المالي والتقني الدولي وتراجعه الملحوظ للبرنامج الوطني الذي يديره المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام في الجيش اللبناني، وهذا ينعكس سلبًا على عمليات الإزالة وتدنيًا في عديد الفرق العاملة التابعة للجمعيات والشركات المحلية والدولية، ويبذلُ جهدًا استثنائيا في هذا المجال فوج الهندسة التابع للجيش اللبناني وفرق من اليونيفيل وإلى جانبهم ما يقارب الــ 33 فريقًا يتبعون شركات ومنظمات محلية ودولية في مجال الإزالة يعملون على مساحات شاسعة ملوثة ومتضررة يزيد عددهم وعديدهم أو ينقص بسبب الاعتماد وبشكلٍ أساسي على التمويل من المؤسسات الدولية المانحة والتي تبدَّلت أجنداتها وفقًا لسياسات الحكومات الداعمة لها وتحوّل اهتماماتها نحو ساحات نزاعٍ وصراعٍ مختلفة ومستجدة على مستوى العالم من ليبيا إلى اليمن ومن ثم أوكرانيا وقديمًا ومستجدًّا النزاع في السودان ناهيك عن دول أخرى مثل لاوس وفييتنام وكمبوديا التي ما زالت تعاني من ويلات هذه المخلفات والمخاطر منذ أكثر من أربعين عامًا، حيث بقي لبنان وإلى حدٍّ ما يواجه مصيره بنفسه وبقدراته الذاتية والوطنية مع دور مساعد لقوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) وفرق الشركات والمنظمات التي سبق ذكرها أعلاه.
تستمر المساعي لدى المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام في الجيش اللبناني لتأمين التمويل والدعم الوطني والدولي لبرنامج عمليات إزالة الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة وفق إستراتيجية المركز للعمليات الإنسانية 2020 – 2025، ويتحدث التقرير السنوي الصادر عن المركز للعام 2022 (LMAC ANNUAL REPORT 2022) والذي يتضمن المعلومات الرسمية والشرح الكامل لخطة المركز وأنشطته ومنجزاته حتى آخر العام المذكور في مجال المسح التقني والإزالة والتوعية ومساعدة الضحايا، حيث يذكر التقرير أنّه تمَّ تنظيف ما يقارب الــ 1,455,868 م2 من مجمل المساحة الملوَّثة والمستهدفة التي قدِّرت بـــــــ 29,660,000 م2 وفق آخر مسحٍ تقني تم إجراؤه بــــــداية العام 2022 ومن ضمنها المساحات التي كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية من داعش والنصرة في السلسلة الشرقية لجبال لبنان.
هذا وقد تمَّ خلال العام 2022م إزالة وتدمير 37,376 جسمًا غريبًا متنوعًا ومختلفًا ما بين ألغام أرضية إفرادية أو آليات وقنابل عنقودية أو قذائف وصواريخ وذخائر مختلفة غير منفجرة في القرى والبلدات التي كانت مسرحًا للعدوان أو التلال والأودية التي كانت مواقع للاحتلال وعملائه إلى جانب حقول الألغام المزروعة على “الخط الأزرق” في المنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة.
إنَّ المجتمع الدولي يرتكب ذات الخطيئة في تأجيج الصراعات وتمديد آجال الحروب من خلال تزويده للدول المتحاربة بأنواعٍ من الذخائر التي لا يمكن لها أن تحسم حربًا أو معركة بل ستكون عاملًا إضافيًا في زيادة معاناة الشعوب من الآثار والمخلَّفات الناجمة عنها. وما قرار الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام بتزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية مع إدراكهم المسبق لخطرها على المدنيين مضافًا إلى ما زودتها به سابقًا، إلا مثال واضح على المعاناة والآلام المرتقبة لسكان تلك المدن والقرى والبلدات على جانبي الصراع والتي ستستهدف بهذه الذخائر وسيكون المدنيون أولى ضحاياها.
تبقى قضية الألغام والقنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة في لبنان جرحًا مفتوحًا على المجهول يسبب يوميًا آلامًا وجراحًا ومعاناة وخسائر اقتصادية وتلوثًا بيئيًّا يدفع ثمنه المواطن اللبناني الجنوبي على وجه الخصوص وتراجع الدعم الدولي والمنظمات الدولية ينعكس سلبًا على البرامج الإنسانية في المجتمعات المتضررة في مجالي التوعية من المخاطر ومساعدة الضحايا حيث شهد العام 2022 إضافة 22 ضحية بين شهيدٍ وجريح إلى 2386 ضحية سابقين بينهم 540 ضحية بحاجة إلى مساعدات فورية متنوّعة على الرغم من تنفيذ سلسلة من حملات التوعية والتحذير من المخاطر بسبب هذه المخلفات، كلُّ هذا سببه عدوان إسرائيل وهمجيتها وتجاوزها للقانون الدولي الإنساني وشرعة حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف التي تحمي المدنيين عند الحروب ورفضها إلى اليوم التوقيع على الاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام الألغام والقنابل العنقودية مِمَّا يُبقي مستقبل اللبنانيين وعائلاتهم غير آمن.
*الكاتب ناشط في ما يتعلّق بالقانون الدولي الإنساني وقضايا الإعاقة وحقوق المعوقين وضحايا الحرب والألغام والقنابل العنقودية والتوعية من مخاطرها ومساعدة ضحاياها.