تعتبر القرنة السوداء في جبل المكمِل من جبال لبنان أعلى قمة جبلية في ما يعرف بالسلسلة الغربية لجبال بلاد الشام، وتمتاز بطقسها البارد المثلج حدَّ الصقيع وبينابع مياهها الغزيرة والوفيرة، تختزن في جوفها كميات كبيرة من المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج التي تغطيها تقريبًا على مدار العام وتشكِّل موضع نزاع حول أحقية الاستفادة منها بين أبناء المنطقة والقرى المحيطة بها.
يعود النزاع تاريخيًا إلى عقود من الزمن بين أبناء منطقة بشرِّي وبقاعصفرين على ملكية الأراضي وحدودها في تلك “القرنة”، وكلٌّ له صكوكه ومستنداته التي تثبت حقوقه في الملكية العقارية، نزاعٌ يختلط فيه الطائفي بالسياسي والمناطقي أدَّى إلى حصول مواجهات دامية سقط فيها القتلى والجرحى كما وعطّلت مشاريع ذات حاجة تنموية للزراعة ورعاية الماشية في المنطقة في حالة مشابهة لما يجري أيضًا أحيانًا بين أبناء بلدة “اليمونة” في البقاع الشمالي وبعض أهالي بلدة العاقورة في الجرود حيث وقعت صدامات مسلحة سقط فيها عدد من الضحايا ومن الطرفين في نزاعٍ عمره 80 عامًا على حدود البلدتين ومشاعاتها.
هذا النزاع المستفحل في القرنة السوداء دفع بعض الخارجين على القانون لتنفيذ اعتداءات متكررة على رعاة الماشية والمزارعين في أراضيهم من بقاعصفرين والضنيّة في محاولة لترهيبهم ومنعهم من الاستفادة منها، ووصل الأمر بهؤلاء مرَّاتٍ متعدِّدة إلى إطلاق النار على قطعان الماشية وقتل عدد كبيرٍ من رؤوس الماعز وطرد الرعاة أو ترهيب المزارعين ومنعهم من إستجرار المياه بالأنابيب من التجمعات المائية الناتجة عن ذوبان الثلوج وتخريبها مما رفع منسوب التوتر والغضب لدى أهالي المنطقة بسبب هذا السلوك العدائي والمشين.
تعيش المنطقة هناك في الشمال اليوم وتحديدًا ما بين بشرّي وبقاعصفرين – الضنية على فوَّهة بركان إن لم تتم المبادرة إلى رأب الصدع ولملمة الخلاف ومعالجته بشكل جذري بما يحفظ حقوق الجميع وكرامتهم وحياتهم أمام الممارسات الميليشاوية التي تقوم بها مجموعات مسلحة مدعومة من قوى أمر واقع في تلك المنطقة وخاصة أمام ما نسمعه ونقرأه من بيانات تحريضية، تلك الممارسات التي أدّت في اليومين الماضيين إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى والتي كادت أن تصل إلى ما لا يحمد عقباه لولا أن يبادر الجيش اللبناني للتدخل للسيطرة على الوضع وإدخاله قوة كبيرة مؤللة بمؤازرة من الطوافات وبطلب من القيادات الواعية والمسؤولة في منطقة الشمال والعمل على مطاردة المسلحين القادمين من بلدة بشرّي وإعتقال عدد منهم بعد إشتباك محدود معهم ومصادرة أسلحة وأعتدة وذخائر على خلفية مقتل الشَّابَّين من آل طوق برصاص مجهول والتي هي جريمة قتل غير مبررة ومدانة ويجب كشف ملابساتها وتقديم مرتكبيها إلى العدالة، هذان الشابات القتيلان ووفقًا لتصريحات مسؤولين محليين كانا يقومان بأعمال حراسة مسلّحان في تلك المنطقة اللبنانية التي من المفترض أنها خاضعة للقانون ولسلطة الدولة وقواها الأمنية.
يطلُّ علينا السياديون الجدد صُبح مساء ينظِّرون حول مفهوم الدولة والدويلة والسلاح المتفلِّت والغير شرعي ويتخموننا بتصريحات ممجوجة حول حصرية السلاح بيد القوى الشرعية هذا ولم يجُف بعد حبرُ بيان نوابهم الأخير في مجلس النوَّاب المُصاغ بلغةٍ خشبية ممجوجة وعفنة إعتبروا فيها سلاح المقاومة ومناوراتها مظهرًا ميليشياويًّا يناقضُ مفهوم الدولة في ملاقاة للغة العدو الإسرائيلي ومحاكاة لهواجسه وخوفه بل رعبه من المقاومة وجهوزيتها وقدراتها النوعية التي هي موضع رضى وتقدير من معظم الشعب اللبناني بمختلف قواه وطوائفه ومناطقه ولدورها الأساس في الدفاع عن لبنان وسيادته وشعبه والتي هي ركيزة معادلة القوة للبنان بوجه العدوان وخلق توازن رعبٍ في مواجهته وما عجزُ العدو اليوم عن إزالة الخيمتين في أحد أحراش مزارع شبعا إلا خير دليلٍ عن خيبته أمام إرادة المقاومين.
هذه المقاومة كانت دومًا الضامنة للاستقرار السياسي للبلاد وديمومة مؤسساتها وهي خلاف تلك الميليشيات التي تم حلَّها بعد إتفاق الطائف وإنهاء الحرب الأهلية في لبنان في العام 1990م وما زلنا نرى بعض فلولها، بل هي أرقى وأنقى وأسمى وأشرف من سلوكيات وأفكار وعقائد تلك الميليشيات المنحلّة والتي في محطات متعددة كانت أول من حطَّمت الدولة وهيبتها ومؤسساتها ودورها وظهرت مكنونات مخازنها ومستودعاتها المليئة بالسلاح والذخائر والحقد الطائفي والمذهبي في كمائن الغدر بداية من عين الرمانة في الثالث عشر من نيسان من العام 1975م إلى مجزرة الطيونة بحقِّ المتظاهرين في الرابع عشر من أيلول من العام 2021م وسقوط شهداء أبرياء من بينهم أُم قُتِلت بدمٍ بارد برصاصة قنّاصٍ حاقد وهي تنتظر عودة طفلتها من المدرسة، وقد أظهرت التحقيقات أن الكمين كان مدبّرًا ووضعت تفاصيله الإجرامية في أحد المقرَّات الحزبية وصولًا إلى اليوم في القرنة السوداء وحركة المسلَّحين فيها التي لا يمكن أن تكون بمعزل عن قرار وتوجيه ورضى وإرادة ذاك التنظيم المهيمن في تلك المنطقة والله وحده يعلم ما ينتظر اللبنانيين في القادم من الأيام من كمائن غدرٍ وحقدٍ وإجرام.
ختامًا شتَّان ما بين سلاحٍ متفلَّت ميليشياوي بأيدي قتلة ومجرمين أُعِدَّ للغدر بالناس وابتزازهم وترويعهم وقتلهم قنصًا أو خطفهم على الهوية وتبعًا للطائفة والمذهب، وما بين سلاحٍ أُعِدَّ للدفاع عن الوطن وشعبه وسيادته وكرامته ولمواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي ولتحرير ما بقي من أرضٍ محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء المُحتل من بلدة الغجر.