يأتي إعلان الجمهورية الإسلامية في إيران عن إنجازها الجديد النوعي والإستراتيجي في صناعة الصاروخ فرط الصوتي “فتاح” مع ما لهذه التسمية من دلالات وما تحدَّثت عنه المعلومات من معطيات حول قدراته الفائقة في السرعة والمناورة والتدمير وكأن الكيان الغاصب في فلسطين المحتلة لا يكفيه ما يعانيه من كوابيس مرعبة بسبب التهديدات الإستراتيجية المختلفة التي تحيط به.
يتعالى صراخ الصهاينة هذه الأيام في الكيان الغاصب بوتيرة متسارعة تشي بواقع داخلي سيئ لدى مسؤوليه ومستوطنيه كلٌّ وفق هواجسه ومخاوفه، وتتالت التصريحات المتضاربة حول حجم التهديدات وآثارها الوجودية على “شعب إسرائيل”.
في متابعة بسيطة لواقع تلك التصريحات منذ الأسبوع المنصرم وحتى اليوم نجدُ عددًا متزايدًا منها تتنوّع مواضيعها وأهدافها ووظيفة مصرِّحيها من رئيس وزراء الكيان بنيامين نتانياهو إلى وزير حربه “يوآف غالانت” نزولًا إلى من يسمى برئيس أركان جيشه “هرتسي هاليفي”، وتكرُّ سُبحة المصرِّحين إلى المنظرين والمحللين والمحاضرين في مؤتمرات الأمن القومي وما شاكل. حتَّى المسؤولون المحلِّيّون للمستوطنات كان لهم نصيبٌ من رفع الصوت، وكُلُّها تُعبِّرُ عن حقيقة مرَّة ألا وهي مأزق الكيان مع التهديدات والمخاطر المتزايدة.
كنَّا ما زلنا صغارًا في السن حين كتا نمرُّ بجانب المقبرة في القرية وكان يعلو صوتنا بالحديث مع أنفسنا بثقةٍ كاملة وصوت رخيم جهوري ينمُّ عن قوِّةٍ واعتدادٍ بالنفس لا يعيرُ أهمية للخوف أو الفزع مع تراتيل وترانيم وسيمفونيات صفير وولولة من الرعب والخوف الناتج عن رهبة المكان وسكونه. وما زال في الذاكرة ذاك المثل القروي القديم والشائع “لا تنام بين القبور حتى لا تشوف منامات موحشة”. والإسرائيلي هذه الأيام هو كمن يمشي بجانب المقبرة معتدًّا بنفسه واثق الخطى يعلو صراخه وعويله بتهديداتٍ فارغة تنمُّ عن قلق وجودي حقيقي أو نائمًا بين قبورها فيرى الكوابيس المرعبة، لذا تجد حاله خبط عشواء يمنةً ويسرة، شمالًا وشرقًا وحتى جنوبًا ولا يغمض عينًا عن البحر وما فيه من تهديدات جدّيَّة لمنصات الغاز والنفط من كاريش وإلى ما بعد ما بعد كاريش.
حتى وسائل الإعلام الإسرائيلي بكل تلاوينها السياسية فتحت شاشاتها وأدلت بدلوها وأسالت حبر أوراقها وتفتقت قريحة محرريها عن كتابات وتحليلات لمواقف قادة العدو ومسؤوليه ومارست النقد اللاذع والقاسي لتلك المواقف وميَّزت فيها بين الغثِّ والسَّمين وأظهرت حجم التخبُّط الحاصل حول تدني القدرة لدى الكيان وجيشه على مواجهة الأخطار المحيطة به بدءًا من إيران الإسلام وصولًا إلى شبه جزيرة سيناء وما بينهما من دولٍ ممانعة ومقاومات ومحور وقدرات والخطر المتنامي في الشمال، ولو أنها تضع دومًا في أعلى قائمة التهديدات الجدِّية ذات البعد الإستراتيجي القدرات العسكرية الاستثنائية للجمهورية الإسلامية في إيران، حيث جاء في الإعلام الإسرائيلي: قادة “إسرائيل” السياسيون والعسكريون تبجحوا لسنوات بقدرة مهاجمة إيران إلا أنّه يجب القول بصراحة ليس لـ”إسرائيل” قدرة عسكرية ذات جدوى.
واستكملت دائرة التصريحات الخائفة والقلقة والمشكِّكة ما بين الحرب واللاحرب وخاصة في الشمال حين حذَّر “رئيس أركان جيش الكيان هاليفي” حزب الله في مؤتمر “هرتسيليا 2023” من أن “أي حرب على الحدود الشمالية ستكون قاسية على جبهتنا الداخلية لكننا سنعرف كيف نتعامل معها” ليناقض نفسه في ذات الخطاب ويقول إن “حزب الله مرتدع بشدة عن شن حرب شاملة ضد إسرائيل”، مؤكدا أن بلاده لديها استعداد جيد على الجبهة الشمالية” ليضيف محذرًا “من ضربة وشيكة على إيران بسبب نشاطها النووي، وأنها تقدمت في تخصيب اليورانيوم على نحوٍ غير مسبوق، وأن تل أبيب لديها القدرة على ضرب إيران وما تحاول أن تبنيه في محيط إسرائيل”، ليستدرك هذه التصريحات ويلطِّفها بعد يومين الناطق العسكري باسم “الجيش الإسرائيلي” موضحًا أنَّ التهديدات التي أطلقها قادة ومسؤولون عسكريون إسرائيليون ضد إيران وحزب الله اللبناني “لا تعني أن الجيش بصدد شن حرب على لبنان أو ضرب المنشآت النووية الإيرانية”.
كل هذا لم يُزِح القلق والخوف من عيون وعقول سكان الكيان ومستوطني الشمال على وجه الخصوص وعكسته تصريحات مـسـؤول دائـرة الأمـن فـي الـمـجـلـس الإقـلـيـمـي لمستوطنات الجليل “غـي إيـال” لــ “صحيفة يسرائيل هيوم”: “نتوسل المزيد من الحماية داخل المستوطنات الشمالية، ولا أفهم حقًا لماذا تتخلى وزارة الدفاع والجيش الاسرائيلي عن “سكان” الحدود الشمالية ولا يقدمون لهم الحل المناسب. العشرات من الغرف المحصنة مهملة دون أي صيانة ولن يستخدمها أحد حقًا في حالات الطوارئ، معظمها مغطى بالأعشاب الطويلة وبعضها تم وضعه مع فتحاته باتجاه الشمال، الاتجاه الذي ستُطلق منه الصواريخ… وبعضها مقفل والبعض الآخر تم تحويله إلى مراحيض مؤقتة”.
غريبٌ أمر القادة والسَّاسة والباحثين والمحللين في هذا الكيان تراهم يُجبِّنُ بعضهم بعضًا ويزرعون الرعب في نفوس مجتمعهم المتآكل والمشكِّك والمحبط أصلًا، وتتوالى الأبحاث والدراسات على مختلف أنواعها ومصادرها في الداخل الإسرائيلي لتؤكِّد أنَّ في الجبهة المقابلة للعدو هناك تناميًا مضطردًا في حجم القوة والقدرة لدى الحزب ومقاتليه وتوصيفها له بــــــ “القدرة الهائلة على الفتك بالعدو وتدميره”. وقد شهد الميدان بأس هذه القوة وعلو شأنها ونمو وتطور قدراتها العملياتية كمًّا ونوعًا وطعم مرارتها ما زال تحت أضراس قادة الفرق والألوية في حرب تموز وآب من العام 2006م، لذا ترى الإسرائيلي يعمل جاهدًا على مراكمة التجارب وأخذ العبر من كل معركة يخوضها، يستعد ويدرس قدرات الخصم أو الخصوم ومواضع القوة والضعف لديهم ونصب عينيه كيفية استعادة الردع، ويناور في محاولة لرفع الجاهزية لدى جنوده وقد نفذ في هذا الصدد العشرات من المناورات القتالية للأذرع المختلفة لــ “الجيش الإسرائيلي” داخل الكيان وخارجه مع شركاء غربيين وأوروبيين وآخرها المناورة التي حاكت حربًا على جبهات متعددة تحت مسمَّى “اللكمة القاضية”، عدوٌّ يستطلع ويجمع المعلومات وينفذ العمليات الهادئة خلف الخطوط في جهدٍ استخباري كبير لحظوي واستثنائي؛ فالحرب قائمةٌ ولو بصمت وتسجيل الأهداف والنقاط جارٍ على قدمٍ وساق ويديرها على الضفتين المتقابلتين من يعنيهم الأمر يتحكمون بأحداثها ومجرياتها ويدرسون نتائجها، وتنتظر منه المقاومة بحماسٍ وتحفُّز أيَّة دعسة ناقصة في هذا الميدان.
إنَّ الخلاف المستفحل حول التعديلات القضائيَّة مضافًا إليها الوضع الاقتصادي المتأزّم داخل الكيان المؤقَّت وضبابيَّة العلاقة مع الإدارة الأمريكية وعدم وضوحها أو استقرارها يزيد حجم الضغوطات لدى قادته في مواجهة التحديات القائمة والقادمة ويعطي الانقسام الداخلي جرعات منشِّطة لمزيدٍ من تسعير الاشتباك بين المكونات السياسية والدينية لهذا الكيان وللتصويب على فشل سياسات الحكومة وعلى مختلف الصعد وأهمُّها العلاقة الباردة مع الإدارة الأمريكية شبهِ المنكفئة منذ عقدٍ من الزمن عن ميدان الأحداث في الشرق الأوسط والذي أعطى لإيران اليد العليا والقدرة المريحة (وفق تقدير الصهاينة) لنسج علاقات وانفتاح مع دول المنطقة والمسجَّلة تاريخيًا في خانة حلفاء أمريكا وأصدقاء “إسرائيل” مما عزَّز وسيُعزِّز أكثر مستقبلًا حضور محور المقاومة وتنامي قوته والذي تدعمه إيران في مواجهة أمريكا ومِن خلفها “إسرائيل” ودول التطبيع والرجعية العربية.
أخيرًا لا يذهب عن بالنا أبدًا بل عن اعتقادنا المتين والعميق أنَّ هذا الكيان واهن وضعيف ومتآكل بل أوهن من بيت العنكبوت وما نهايته وسقوطه إلا مسألة وقت فقط وأسوأ السيناريوهات وكوابيسها الموحشة بالنسبة لقادة الكيان ومستوطنيه قادمة بإذن الله وعلى مرمى قرار بفتح ثغرةٍ في الجدار والعبور إلى الجليل. كما ويحلو للبعض هذه الأيام أن يتذاكى بل أن يتساخف متسائلًا ما نفعُ الصواريخُ الدقيقة التي بحوزة المقاومة بعد أن حازت إيران على تكنولوجيا الصواريخ فرط الصوتية وقدراتها الهائلة على قطع المسافات بوقتٍ قياسي (يحتاج 240 ثانية – 4 دقائق – لقطع المسافة ما بين منصة إطلاقه في إيران والوصول إلى الكيان الغاصب وإصابة الأهداف النقطوية المحددة وبرأس حربي تدميري ساحق يزن 1500 كلغ من المواد الشديدة الانفجار)، وقد فات المتذاكين أولئك أن يسألوا أنفسهم بالمقابل: ماذا لو حصلت المقاومة في لبنان على تلك الصواريخ؟ برأيكم كم تحتاج من وقت للوصول إلى الكيان المصطنع عند الضغط على زرِّ الإطلاق؟