الحرب الأمريكية على الصعود التكنولوجي الصيني

لوقف صعود الصين حظرت الولايات المتحدة بيعها تقنيات أشباه الموصلات، وكان القانون صارما حتى على الشركات الموجودة خارج الصين، فلا يمكن للشركات العالمية أن تبيع المنتجات التي تحتوي على تقنيات أمريكية المنشأ.

دونالد ترامب هو الرئيس الأمريكي الذي صعّد الحرب التجارية مع الصين لأول مرة، وكما يشير مقال ” يابان تايمز” فإن قيود بايدن على الرقائق تتفوق على ترامب في سبيل إجبار العالم على الانحياز لحكومة بايدن، سرعان ما بدأ الأمريكيون العمل واتصلوا مع الحلفاء المقربين مثل هولندا واليابان وكوريا الجنوبية، وأجبروهم على البدء في حظر مبيعات الرقائق الدقيقة الى الصين، وأرسلت الحكومة الأمريكية رسائل إلى كبار مصنعي المعدات التكنولوجية التي تتضمن رقائق متطورة وطلبت منهم وقف شحنها الى الصين.

جيم لويس خبير التكنولوجيا والأمن السيبراني في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية قال وبفخر إن هذه العقوبات والإجراءات ستعيد الصينيين الى الوراء سنوات ضوئية، وأوضح لويس أن سياسات الولايات المتحدة القاسية تجاه الصين هي شبيهة جدا بلوائح العقوبات الصارمة في ذروة الحرب الباردة مع روسيا.

استوردت الولايات المتحدة منتجات بقيمة 536 مليار دولار من الصين، ولا تزال الصين أقرب شريك تجاري للولايات المتحدة، ومع التوجه الأمريكي لحظر وصول الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات المتطورة بدت الخطط عند الساسة الأمريكيين مثالية وبغض النظر إن كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين كانوا يتحدثون بشماتة لأنهم ذاهبون لإعادة الصين إلى العصر الحجري وربطوا الموضوع بالأمن القومي الأمريكي على حد تعبير مساعدة وزير التجارة الأمريكي لشؤون إدارة الصادرات ثيا كيندلر: “تستوجب مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة التصرف بحزم لمنع الوصول إلى التقنيات المتقدمة”.

كان معظم الأمريكيين متحمسين لوقف صعود الصين، لكن بعد عدة أشهر انهارت الخطة بالسرعة نفسها التي تم رسمها. في تقرير جديد صادر عن خبراء الصناعة في رويترو كشفوا أن ضوابط تصدير الرقاقات الدقيقة في الولايات المتحدة المصممة لإيقاف تطور الصين الخاصة لأجهزة الكمبيوتر الفائقة والذكاء الاصطناعي ليس لها سوى تأثير طفيف على قطاع الإنتاج التكنولوجي في الصين، وبدلا من ذلك فإن الضوابط لها تأثير أكبر بكثير مما كان يحسب على شركات تصنيع أشباه الموصلات في العالم التي تأثرت سلبيا بعدما تبين أن غالبية إنتاجها يذهب للصين فتراجعت مثلا ارباح شركة” سامسونج” بنسبة 95% وهو أدنى مستوى لها منذ عام 2009، ومع تراجع الطلب على الرقائق أبلغت شركة “تي أس أم سي” التايوانية عن أول انخفاض لها في الإيرادات الشهرية منذ ما يقرب من أربع سنوات، بينما أعلنت شركة “أنتل” الأمريكية هذا العام عن أكبر خساره ربع سنوية في تاريخ الشركة هذا العام.

ثلاث قضايا رئيسية تتعلق بحرب الرقائق:
1 ـ كيف تلتف الصين على العقوبات الأمريكية؟
إن العقوبات الأمريكية على الصين ستضرها على المدى القصير، ومن المفارقة أنها ستساعد الصين على المدى الطويل، فالقيادة الصينية تحدثت عن مشروع امتلاك التقنيات الكاملة لصناعة أشباه الموصلات والرقائق المتطورة، وساوت أهمية امتلاك هذه التقنية بامتلاك البرنامج النووي، والمقارنة بين واردات الصين من الرقائق الدقيقة بالرقائق التي تنتجها الصين؛ فخلال العشر سنوات التي مضت كانت الصين تستورد ضعف الكمية التي تنتجها، واعتبارا من العام الماضي اصبحت الصين تنتج تقريبا نفس الكمية التي تستوردها وقبل دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ استوردت الصين كل عام ما يزيد عن 300 مليار دولار من الرقائق الدقيقة وهذا ما يزيد عن كمية النفط التي تستوردها، وهذا ما يعني أنها جهزت نفسها بمخزون كبير من الرقائق، وبعد دخول العقوبات الأمريكية تحولت الأموال التي كانت تشتري بها الرقائق الدقيقة الى مشروع صناعتها محليا.

عام 2016 كانت الصين تستثمر القليل جدا في صناعة أشباه الموصلات الروبوتية والتكنولوجية أما الآن وحسبما ذكرت بلومبرغ فإن التحول الصيني نحو هذه الصناعة جذب الأموال والاستثمارات بست مرات أكثر من الولايات المتحدة، وقد أساءت الولايات المتحدة التقدير وتفسير الاتجاه الصيني للحملة التكنولوجية لصناعة الرقائق المتقدمة لأنهم اعتبروا أن الصين تعتمد فقط على استيرادها، ولأن كمية الاستثمار الصيني في الشركات التكنولوجية كانت قليلة فقد كانت الحكومة الصينية تبتعد عن الاستثمار والتمويل وتركز على تدفق الكميات الهائلة لهذه التقنيات وهذا ما يعني أن الصين كانت تتحضر لمثل هذه العقوبات وكيف تواجهها؛ فعندما أجبرت الولايات المتحدة الشركات العالمية الخاصة بتصنيع هذه التقنية لم يكن أمام الصينين سوى التحول نحو الاستثمار وبقوة في هذا المجال. ويشير مقال “حرب التكنولوجيا” في موقع ساوث شاينا بوست إلى أن شركة “واي أم تي سي” أكبر شركة لتصنيع شرائح الذاكرة في الصين تحرز تقدما مهما في إنتاج منتجات متقدمة بالاعتماد على المصادر المحلية.

2 ـ كيف تلتف الشركات الأجنبية على العقوبات وتستمر في بيع الصين؟
عانى العديد من الشركات الأجنبية التي ذكرناها في البداية من انخفاض هائل في إيراداتها بسبب تراجع الطلب الصيني نتيجة العقوبات. وفي الفترة الماضية التقى رئيس كوريا الجنوبية مع الرئيس بايدن في واشنطن وتم البحث في هذا الشأن لكن نتيجة الاجتماع خيبت آمال الشركات في كوريا الجنوبية بحيث لم تقدم الولايات المتحدة أي دعم أو تنازلات لصانعي الرقائق الكوريين مثل سامسونغ، والذين يمتلكون ويديرون مصانع للرقائق في الصين، ولكن في هذه الحالات فإن مثل هذه الشركات تبحث دائما عن ثغرات في قوانين العقوبات والتملص منها وتعويض الانخفاض الكبير في إيراداتها فمثلا شركة “أن في آي دي آي أيه” الأمريكية تصنع نوعين من الرقائق المتطورة “أي 100 و أتش 100” وهي من أكثر شرائح الذكاء الاصطناعي تقدما في العالم لم يعد يسمح لها بموجب العقوبات ببيع هذه الرقائق للصين فقامت هذه الشركة بتصنيع نوع آخر منخفض المستوى “أي 800 أس و أتش 800 أس ” صنعتها خصيصا للالتزام بمتطلبات العقوبات. ومن الطبيعي أن هدف الشركات التي لها أسهم عالمية ومدرجة في البورصات العالمية مثل هذه الشركة هو زيادة قيمة المساهمين ولن تتخلى عن سوق هائل كالسوق الصيني، فبالتالي فإن الشركات الصينية التي تستخدم الرقائق الواردة من هذه الشركة تستعيض بعدد أكبر من الرقائق ذات المستوى المنخفض لتعطيها نتيجة رقائق المستوى الأول. وتشير إحدى الصحفيات الصينيات “كارن هاو” لصحيفة وول ستريت جورنال إلى تأثير مهم للعقوبات الأمريكية التي ربما لم يفكر فيها الناس فبينما تكافح الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الرقائق العالية الجودة، تفكر شركات الإنتاج في طرق أخرى للتغلب على نقص المعدات الجديدة، ويجب على الغرب أن لا يراهن أبدا على تراجع وتأخر الصين في هذا المجال وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتصنيع، فالصين المتأخرة بفارق عدة سنوات في تصنيع الرقائق عن الدول التي تمتلك تقنيتها المتطورة هي أيضا تلحق بالركب بسرعة، وقد حققت شركة “أس أم آي سي” اكبر صانع للرقائق في الصين اختراقا تقنيا بسبعة نانو متر على قدم المساواة مع إنتل وسامسونغ و تي أس أم سي واستغرقت القفزة من 14 نانو الى 7 عامين فمع التطور الصيني في الوصول الى كامل التقنيات لن تمتثل الشركات العالمية بشكل مطلق بالالتزام بالعقوبات الأمريكية التي تفقدها السوق الصيني الأهم عالميا.

3ـ فشل العقوبات على روسيا يتنبأ بمستقبل العقوبات على الصين
الأسلوب الأمريكي في تنفيذ العقوبات على روسيا والذي تبين أنه غير مجدٍ مع اللوائح الكبيرة التي وضعت وصممت لقمع روسيا وتدمير اقتصادها دليل واضح على أن استعماله مع الصين سيؤول أيضا الى الفشل؛ فالدول التي تعتبر شريكة للولايات المتحدة كالهند واسبانيا وهولندا واليابان زادت وارداتها من روسيا بعد الحرب الأوكرانية، فاليابان وهولندا مثلا اللتان تمتلكان شركات مهمه في تصنيع الرقائق وهذه الشركات سعت للالتفاف على العقوبات إلا أنها تسير على خط رفيع في المقاربة بعلاقاتها التجارية مع الصين وتسعى اليابان بشكل خاص لتجنب التوترات مع الصين بالرغم من أنها تنظر إليها كتهديد محتمل، وفي نفس الوقت ترى في الصين شريكا تجاريا لها وكذلك لكل دول العالم تقريبا، فشركة طوكيو اليكترونيكس مثلا يأتيها من الصين حوالي 30% من إيراداتها، فكيف يمكن لشركة مثلها رائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات أن تخسر مثل هذه الإيرادات؟ وفي حساب العديد من الشركات العالمية التابعة للدول الحليفة للولايات المتحدة أن سياسة العقوبات الأمريكية تسبب لها ضررا كبيرا فإلى متى الاستمرار في القبول فيها؟ لذا يسعى العديد منها إلى التحول في غضون السنوات الخمس المقبلة الى تطوير معدات إنتاج أشباه الموصلات دون استخدام اي تقنية امريكية ومن هذه الشركات “نيكون، أي أس أم أل، وطوكيو الكترونيكس”.

إن الولايات المتحدة بسياسة العقوبات على روسيا واللوائح الضخمة التي طالت كل القطاعات الإنتاجية الروسية أدت الى ضرر مباشر بالدول الحليفة لها؛ فمحاكاة لحرب الرقائق مع الصين والتي تريد الولايات المتحدة جلب حلفائها للدخول فيها لكبح صعود الصين فإن نفس الحلفاء يفكرون في خيار إزالة التكنولوجيا الأمريكية من معداتهم والاستمرار في التعامل مع الصين.

اساسي