الحصار القاسي والانتخاب الرئاسي

د. أحمد الشامي – خاص الناشر |

إنّ السؤال الذي يستحق الإجابة عليه هو: متى سيرفع الحصار القاسي على لبنان بدل التلهّي بمتى ينتخب الرئيس؟ فما يحصل من احتدام في مشهد الانتخابات الرئاسية إنّما هو امتداد لسلوك جرى تكريسه في لبنان بشخصنة مشكلاته، إذ بمجرّد ملء الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، سوف يتنفس الشعب الصعداء، وتسكن آلامه، وتنتفي مآسيه، وتتحقق آماله. وما ذلك إلّا تسخيفاً لوعي الناس وإضعافه، في رهان دائم على ثقب في ذاكرتهم.

يوضح الماضي القريب هذا الاستدلال، حين جرى تقديم الانتخابات النيابيّة بوصفها المعبر لحلّ مشكلة لبنان، وأطلق العديد من ساسته تصريحات عالية النبرة لامست خطوط تماس الحرب الأهليّة، ووعوداً انتخابيّة تجاوزت في غلوّها حد الطوباويّة، ولكن ما أن انتهت، حتى ازداد وضع اللبنانيين سوءًا، وبلغ انهيار عملتهم مستويات عالية جداً، واقترب الوضع من حد الانهيار الكامل في أمنهم الاجتماعي.

إنّ الانهيار الأخلاقي في لبنان يسابق الاقتصادي، حيث لا احترام للرأي العام، فالعصبيّة الطائفيّة، والمناطقيّة، وحتى العشائريّة، لا تزال تفعل فعلها في خدمة استراتيجيّة كيّ الوعي عند اللبنانيين. لقد برع الفاعل الخارجيّ في اكتشافه لسرّ كامن في هذه العصبيّة، والقدرة على تحويلها من تهديد لمصالحه إلى فرصة، تديم له التحكم بخيارات لبنان السياسيّة، والاقتصاديّة، وحتى الهوياتيّة. وذلك، عبر فاعلين داخليين ممّن وجدوا في ذلك ضالتهم، لإدامة نظام إقطاعي بائد، بإسم الحداثة وما بعدها.

تكشف هذه الحقيقة عن عمق مشكلة لبنان، فهو بالدرجة الأولى صنيعة إرادة خارجيّة أكثر منها داخلية، أوجدته ليكون قاعدة لها في هذه الناحية من الشرق، يحمي مصالحها. وأنّ هذه الإرادة الخارجية هي من أسهمت في تعميق التشوهات في بنيته الاجتماعية، بدعم سلطة فاسدة، عديمة الإرادة والإدارة، تحكمها العصبية الطائفية والمناطقية والعائلية.

إذ من السذاجة الاعتقاد بأن الأمريكي وحلفاءه يفرضون الحصار القاسي على لبنان بسبب فساد حكامه، فما من عاقل يصدّق بأن ما ارتكبته هذه النخبة الفاسدة من سرقة لجنى اللبنانيين على مدى ثلاثين عاماً، ومن ثم تهربب الأموال المنهوبة إلى بنوك غربية، إنّما كان ذلك من دون علم الإدارة الأمريكيّة وخزانتها. ألم يكن القطاع المصرفي في لبنان وحاكمه المركزي حتى الأمس القريب هم مثال النموذج الرأسمالي الذي يتوجب على اقتصاديّات المنطقة الاقتداء به؟
إنّ لبنان وفق مصالح صانعيه، هو توأم الكيان الإسرائيلي في الولادة والدور، وإنّما استحق عقاب الحصار الاقتصادي الممنهج والقاسي بعدما فشلت الخيارات العسكرية والأمنية في تأديبه، بسبب ما أحدثه البعض من اللبنانيين من تمرّد على هذا الدور، لمّا صار هذا البلد الصغير (القوي بضعفه) يخرّب خطط الأمريكي ويهدد بقاء قاعدته الأساسية (إسرائيل).

فأيّ حديث عن انتخاب رئيس للبلاد (بصرف النظر عن اسمه) من دون القرار الجدي برفع الحصار الأمريكي على لبنان، هو مجرّد تخدير للشعب، والذي يبدو بأنّ ظروف هذا القرار لم تنضج بعد، وهذا ما يستوجب رصد الموضوعات الآتية:

  • أيّ رابط بين التساهل الفرنسي مع حزب الله رئاسياً، وبين التشدد الفرنسي في تثبيت تعديل دور اليونيفل على الحدود مع الكيان الإسرائيلي جنوباً؟
  • لماذا تموضع الموقف السعودي عند الحياد الرئاسي بدل الدعم والتسهيل، وما علاقة ذلك بحرب اليمن، والضغوط الأمريكية نحو إعلان التطبيع السعودي مع الكيان الإسرائيلي؟
  • ما علاقة أزمة لبنان بتجدد النقاش حول الملف النووي في ظل التقارير عن بلوغ إيران مستويات متقدمة من التخصيب، وارتفاع منسوب التوتر الإسرائيلي ليلامس الحرب؟

وبما أنّ المصالح، وليست القيم والمبادئ، هي التي تملي على الأمريكي رفع الحصار، سيّما، وأن تداعيات هذا الحصار تصيب كل الجماعات اللبنانية، بما فيهم الذين يعدون أنفسهم حلفاء للأمريكي، فمتى ستعي هذه الجماعات بأنّها أمام فرصة تاريخية هامة، بأن تسهم في صناعة مجد لبنان لا أن يعطى لها، عبر فتح حوار صادق مع الجماعات اللبنانية الأخرى بعيداً عن أساطير التاريخ، وأوهام التفوق الجيني، وسراب التقسيم.

إن الفرصة سانحة أمام ممارسة الاستراتيجية التي يعتمدها الأمريكي، حينما اتخذ من العدو الإسرائيلي أداته لتأديب المنطقة والضغط عليها لتنفيذ مطالبه، وتحقيق مصالحه، فلماذا لا تتخذ شعوب المنطقة من هذا الكيان مجالاً للضغط على الأمريكي لتنفيذ مطالبها وتحقيق مصالحها.

فما حصل في عملية ترسيم الحدود البحرية خير مثال على جدوى هذا الخيار وصوابيته، وعندها فقط يكون انتخاب الرئيس السيد الحر المستقل.

اساسيانتخابات رئاسيةلبنان