تصاعدَت حِدّة معركة انتخاب رئيس الجمهورية، ومعها احتَدَم الصراع السياسي بين الأقطاب المتصارِعة. داخل طيّات هذا المشهد القاتم، يطفو الإشكال الحاصل بين الفريق الداعم لسليمان فرنجية من جهة، والفريق الذي يرفض هذا الأخير من جهة أخرى. المسألة طبيعيّة لحدّ هذا السياق، اختلاف في وجهات النظر، اختلاف في المشاريع، وتناقض إلى الحَدّ الأقصى. الأمر غير الطبيعي في المشهديّة تلك، هو سلوك رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي سَلَّ سيوف حربِه ضد سليمان فرنجية وفريقه الداعم، بالأخَصّ ضدّ حزب الله. نقول هنا حزب الله لأن العلاقة بين الأخير والتيار كانت متناغمة إلى حدٍّ بعيد في ميدان السياسة اللبناني، وقلّما رأينا تباينًا وصل إلى حدّ الاختلاف المتعمِّق والحادّ الذي يحدث بين الحليفَين حاليًا.
أعلن رئيس التيار جبران باسيل السبت الماضي دعمَه ترشيح جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية، وبالتالي انضمامه إلى اتفاق سياسي يجمعه بين خصمه (اقرأ: عدوّه) اللدود، سمير جعجع. هذا الأخير الذي ما فتِئَ يناصب مشروع التيار أشدّ أنواع العدائيّة والضغينة، وهذا ما شرع فيه حزب القوات منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
لا يشفع لباسيل، أن تكون التسوية التي يخوضها الآن هي من أجل المناورة أو لقطع الطريق على سليمان فرنجية بأي شكل من الأشكال، فسمير جعجع لن يرحم باسيل إذا ما فشلت الخطة ووصل فرنجية إلى قصر بعبدا، أضِف إلى ذلك أن الأول قد ألزَمَ نفسه بخيار سياسي طالما انقَضَّ على مشروع تياره ونصب له المكائد التي أفقدته شعبيّة كبيرة ظهرت خلال الانتخابات النيابية في العام الماضي. كما أن سمير جعجع انقلب على التسوية الرئاسية التي أتَت بميشال عون إلى سدّة الرئاسة، ذلك الانقلاب الذي كان له الدور الأكبر في إفشال عهد “العَونيّين” وتهشيم صورتهم بشكل غير مسبوق. وبالتالي فإن أي ميثاق ينعقد بين جهتَين يمتلكان كل هذا التناقض والاختلاف، يمسي رحلة داخل حقل ألغام، والخطأ في هذه الحالة أثمانه باهظة، لا أعتقد أن التيار بوارد تحمّلها مع ما يعانيه اليوم داخليًا وخارجيًا. المضحك أن باسيل يعرف جيدًا، أن جعجع لا يحبّه، ولا يقبل أن يعوَّم التيار على حساب القوات، ولا الأول على حسابه هو شخصيًا، في ظلّ ما يراه من تراجع لشعبية التيار، ويعتبر أن له الفضل الأكبر في ذلك.
في هذا الإطار، فإن باسيل يرتكب أخطاءً جسيمة، واستراتيجيّة، تتظَهَّر بما يلي:
أولًا: الوضع في المنطقة يتغيَّر، والأمور تسير باتّجاه معاكس للإرادة الأميركيّة. السلوك السعودي يتبدّل أيضًا، والتقارب مع الصين وإيران بالإطار السياسي من الطبيعي أن يكون على حساب علاقة السعودية بالولايات المتحدة الأميركيّة، إضافة إلى أن ممارسات المملكة مؤخرًا، منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا، تُظهِر تباعدًا عن الغايات الأميركية بالحدّ الأدنى. كما أن المملكة تيقّنت أن مشروعها السياسي والاقتصادي في المنطقة لن يُحَصَّل من دون التقارب مع محور المقاومة الذي بات يتمتّع بنفوذ ويمسك بزمام العديد من المسارات داخل منطقتنا، وسيكون له دور في التشكيل الجيوسياسي الآتي بلا ريب.
في هذا الوقت، قرّر باسيل الابتعاد عن حزب الله، والذهاب إلى الضفة المقابلة، وبسقوف صِدامِيّة عالية تجاه الحزب، وهذا ما يعتبر تهوّرًا سياسيًا واضحًا، غير محسوب التبِعات، ولا يوجد بداخله رؤية استشرافية مُحكَمة تحسب طريق الرّجعة أو الانكفاء. فباسيل بهذا الانتقاء، قرّر التجانس مع الفريق المنكفئ، ووضع نفسه في مواجهة سياسية حتمية مع الفريق الذي أثبت نفسه في المنطقة ويستعد لجني المكتسبات في المستقبل القريب.
ثانيًا: الذي قدّمه حزب الله للتيار منذ عام 2006، بالسياسة، يفوق ما تتم الإشارة إليه من قبل المحلّلين هذه الأيام. السنوات الـ18 الماضية حفلت بالتعقيدات والمواجهات، وكانت مزدحمة بالأحداث العصيبة تارةً، والعنيفة تارةً أخرى، استطاع التيار العَوني خلالها العبور وهو يمسك بطرف قميص حزب الله من الخلف.
بطبيعة الحال التيار والقوات فكرتان متناقضتَان لا تشبه إحداهما الأخرى البتّة. مشروع الأوّل يمثّل نقيضًا لمشاريع الهيمنة الخارجية أيضًا، بينما الثاني ينصهر داخلها كأداة تنفيذيّة على الأرض. وفي هذه الحالة، فإن الأحداث التي تَتَالَت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كاد أن يكون أولى ضحاياها التيار الوطني الحر، وهذا ما أدركَه الرئيس ميشال عون في تلك المرحلة، ومثّل التفاهم مع حزب الله حجر عثرة في طريق استهداف التيار من قبل المشروع الخارجي، عبر أدواته الداخلية. ونحن هنا لا نحصر الأمور بهذه الفكرة فقط، إنما نذكرها لأنها شأننا في هذا المقام.
ثالثًا: طريق بناء الدولة الذي ينشده التيار، لا يمرّ عبر مشروع سمير جعجع. الأخير يجسّد نقيض مشروع بناء الدولة. ولا داعيَ هنا للإسهاب بمشروع القوات منذ نشأتها حتى نسختها الحديثة بقيادة سمير جعجع، لكن السّمة الأبرز لهذا المسار هي “الفوضى”، فكيف لمشروع الفوضى أن يبني دولة قديرة وقادرة؟
مشروع القوات ترَعرَع على العصب الطائفي والممارسات الفتنوية، هذا المشروع كان مساهِمًا بارزًا في الإطاحة بمرتكزات الدولة، تلك الدولة الذي يعاير التيار حزب الله بأنه لم يتمكّن من مساعدته في بنائها!
رابعًا: قاد جعجع ثورة 17 تشرين بحذافيرها، وساق مسارها نحو هواه، وهي كانت مسلّطة جليًّا ضد عهد ميشال عون، وسعت إلى سحق صورة العهد وتحميله مسؤولية الانهيار الحاصل بالبلد وتحميله تبعات ممارسات عقود سالفة من الزمن. فكيف سيَثِقُ جبران بسمير؟ وأصلًا كيف للثاني أن يثق بالأول؟
الخطأ الجسيم الذي يرتكبه جبران باسيل اليوم، أنه ترك هالة مشروع التيار الوطني الحُر الذي يحاضر فيه منذ سنوات، وتقَوقَع ضمن هدف الإطاحة بسليمان فرنجية، ولو كان على حساب مشروعيّته.
إن كان لا يدري باسيل مخاطر ما يسلكه فتلك مصيبة، أما إن كان يدري فالمصيبة أعظم، ولا تدلّ إلا على مقاصد شخصية بحتة لا تجدُ غايات تختصّ بالتيار كمشروع سياسي. “الصهر” يلعب اليوم على حافة الهاوية، و”الزحطة” هذه المرة ستكون مكلفة جدًا، وسيتحمّل التبعات التي سيتلقاها عند سقوط التسوية مع القوات، التي ستأتي لا محال. هذا إضافةً إلى التداعيات التي ستترك أثرًا داخل التيار نفسه، وتحميل باسيل مسؤولية عرقلة وصول شخصية من التيار إلى سدّة الرئاسة، وهو ما يراه بعض قيادات التيار أمرًا ممكنًا نظرًا إلى بعض الشخصيات المقبولة داخله وتستطيع تحقيق إجماع حولها.
لم يبقَ أمام باسيل إلا خطوة واحدة لإعلان الطلاق مع حزب الله، هو لا يزال يخشى الإقدام عليها، وربما لا يرى أن الغاية تستحقّ هذه المجازفة التي تُعتَبَر كالقفز في الهواء. لذلك لحدّ الآن لم يخطِئ بالحسابات الحمراء مع حزب الله، وهي قضية المقاومة. يعلم جيدًا أنه حين يمسّ بالخطوط الحمراء التي تعني المقاومة، فذلك يعتبر فراقًا بين الطرفين.
وعليه، فإن ما يُقدِم عليه باسيل ليس مراهقة سياسية عابرة، إنما خطيئة كبرى ستكلّف تياره كثيرًا، وخصوصًا أنه يعلم جيدًا ما يعني أن يتبنّى حزب الله أحدًا للوصول إلى رئاسة الجمهورية، وهو خبِرها جيدًا على مدى سنتين ونصف قبل ايصال ميشال عون إلى بعبدا.