ربما الفائدة الوحيدة التي “أغدَقَها” علينا حراك 17 تشرين، هي أنه أنبَتَ لدى مكوّنات “الوطن” اللبناني كافة، بالملموس، شعورًا بعدم فاعلية نظام تكوين السلطة في لبنان. هذا ما كان واضحًا لدى شريحة كبيرة منذ ما بعد اتفاق الطائف، إلا أن الفوضى المستمرة منذ 4 سنوات، جعلت هذه الفكرة رائجة وجليّة أمام القاصي والداني. وربما، أيضًا، لم تَنَل حالتَا الشغور الرئاسي اللتان سبقتا عهدَي الرئيسَين ميشال سليمان وميشال عون حجم الثقل الجاثم على المسار السياسي القائم حاليًا.
أنتَجت انتخابات 2022 برلمانًا غير قابل للحياة، ومجلسًا غير متجانس، وليس فيه أكثريّات متجانسة فيما بينها. الاحتقان الحاصل داخل المجلس يفوق ذلك الذي يحصل على الساحة اللبنانية العامة. لا ينقص المشهد سوى متاريس حرب لتكتمل الصورة.
من يعاين المشهد من فوق، وبقليل من الواقعية، يدرك عدم وجود إمكانية لانتخاب رئيس جمهورية إلا بحدوث أمر “ما” يكون بالأغلب مستورَدًا من الخارج. هذا الأخير الذي فقد السيطرة نظرًا لطبيعة التعقيد الموجود والتَشَتُّت الذي يسيطر على المسرح السياسي بكافة أقسامه. فلا أميركا قادرة على فرض واقع تبتغيه ولا تحيد عنه، وهو الإتيان برئيس يفتح نيران حربه ضد حزب الله، ولا السعودية قادرة على ايجاد حلول دون السقف الذي ألزَمَت به نفسها. أما فرنسا فهي تلعب ضمن الهامش المسموح لها من قبل الولايات المتحدة، ويهيمن على حراكها الطابع “النوستالجي” وحنين الأم الحنون، إضافة إلى أهداف لها طابع اقتصادي ريعي تعتبرها فرصة في خضمّ الفوضى القائمة اليوم.
النعمة المُتَأتّية من تشكيل المشهد الدولي المتمثّلة بانحدار الهيمنة الأميركية وظهور أقطاب جُدُد مؤثرين على الساحة، تحوّلت إلى نقمة موضعيّة في الاستحقاق الرئاسي المنشود. ترى الصورة قاتمة، ولا تستطيع إلا الانتظار علّه يأتينا الله بأمر من حيث لا نحتسب.
القوى المسيحية الكبرى ثارت ثائرتها، وهي تكاد تجتمع على رفض سليمان فرنجية. للدرجة التي استطاعت فيه تلك المعضلة دمج خصوم أعداء، تحت إطار قضية واحدة وهدف وحيد. فمن يصدّق أن جبران باسيل صار “يناور” بجهاد أزعور، الذي يمثّل نهجًا نقيضًا لنهج التيار وشعاراته و”إبرائه المستحيل”؟
طبيعة التغيُّرات الحاصلة في العالم، والتي تتأثّر بها بشكل كبير منطقتنا، تَتَطَلّب رئيسًا بخصائص استثنائية، لا يضيّع فرصة الاندماج بتلك التغيّرات والاندماج فيها لصالح البلد ومستقبله، وهو ما نعوّل عليه للخروج من الأزمة الخانقة التي نرزح تحت وطأتها، وهي بطبيعة الحال أزمة سياسية شاملة تحتاج إلى وقائع سياسية جديدة تلقي بظلالها لاستخراج أرانب الحلول الجذرية وتضعنا على سلّم الصعود والازدهار. وهذه تشكّل بارقة أمل لنا كلبنانيّين نظرًا للنفوذ الذي تتمتّع به قوى المقاومة في الإقليم، وتلعب فيه دورًا أساسيًا لا شكّ أنه سيُستفاد منه في المستقبل القريب.
تكمن الأزمة بالأصل في عدم فهم طبيعتها، وبالتالي عدم وجود خريطة طريق فاعلة لحلّها، وهذه قصة أخرى، لكنها معنيّة أيضًا باستحقاقات تكوين السلطة والالتحاق بركب تقويم الاعوجاج وإدراج المسارات الجذرية التي تُؤازر المتغيّرات الحاصلة. بغير هذا المسار لا يحلم أحد بانتهاء الأزمة، وما تلك الاشكاليات إلا أسماءٌ سميّناها بأنفسنا، نتناحر داخل أزقّتها دون أن نلتفت إلى القطار الذي يكاد أن يفوتنا من غير رجعة قريبة.
خلف هذه المشهديّة المستمرّة لا نرى أفقًا لموعد انتخاب الرئيس، ولا ندري إن كان المجلس النيابي الحالي سيتمكّن من الاستمرارية لثلاث سنوات قادمة. وعلى هذا المنوال، لن يتسنّى لبرلمان 2022 انتخاب رئيس للجمهورية، وسيخيّم الشغور على مدة ولاية المجلس المتبقيّة، بانتظار استحقاقات مهمة قادمة تتعلق بكيان الحكم، كالشغور في حاكمية مصرف لبنان وموقع قيادة الجيش، وهي استحقاقات تضاهي بأهميّتها استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، ولها تأثيرات مقلقة تفوق الأخير.
على القوى السياسية اللبنانية أن تتحمّل مسؤوليّتها، ليس الآن وقت المناورات، فليتركوا المناورات لأهلها. السقوف العالية لا تفيد بل تعمّق الأزمة، والتصلّب بالمواقف يؤجّج الخلاف ويورث الشغور الطويل. الخطأ في التقدير قد يتحوّل إلى أخطاء استراتيجيّة لا تحمد عقباها. والاستغناء عن التعقّل قد يطيح بما بقي من أمل لانتخاب رئيس يعيد تنظيم الأمور وينطلق بمسار التقويم. الكيد السياسي يذهب بصاحبه إلى الانعزال. والأهم، أنه يجب في هذه المرحلة الدقيقة، تكوين رؤية متقنة وعدم اتخاذ خطوات تودي بصاحبها ومشروعه السياسي إلى التهلكة.
ليس هذا نهاية المطاف، تعوّدنا في لبنان على الأزمات المتلاحقة. الحل بالتحاور والتضامن، وليس بالسير في المسارات الانعزالية التي عفى عنها الزمن وأصبحت بالية، ولو تم استحضارها من الماضي. فالزمن قد تغيّر ولم نعد في الثمانينيات، ولا هو عصر الانكسار، إنه عصر نهضة جديد يتشكّل، ومن تخلّف لن يبلغ الفتح!