لم يكن وقع الانهيار الاقتصادي والمعيشي الذي شهده لبنان واحدًا على المواطنين كافة بحكم أن الشعب منقسم بطبيعة الحال ما بين طبقة اجتماعية فاحشة الثراء وأخرى لامست خط الفقر. وبالطبع فإن مأساة الطبقة المعدمة ستكون أعمق وأكبر بكل من فيها.
هذه المعاناة التي يعيشها اللبنانيون كانت وطأتها أكبر على ذوي الاحتياجات الخاصة والصعوبات التعليمية الذين ينتمي معظمهم لأبناء الطبقة الفقيرة، لا سيما وأن هذه الفئة من اللبنانيين كانت تفتقد لأدنى حقوقها في الفترة التي سبقت الانهيار الاقتصادي، فكيف يكون حالها إذًا بعد ما ألمّ بهذا البلد من كوارث؟ وما هو دور الأسرة والمدرسة والدولة في مساندة ودعم أصحاب الهمم في ظل الظروف الراهنة؟
واقع مليء بالتحديات والصعوبات
في ظل ظروف أكثر صعوبة وسوءًا، يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة في لبنان من غياب الرعاية الصحية والتعليمية لهم، فضلًا عن حرمانهم من أبسط حقوقهم الحياتية. هذه المعاناة التي باتت تتفاقم يومًا بعد يوم، كان لها آثار كبيرة جدًا على مسار حياتهم ونمط عيشهم.
هذه التحديات برزت بشكل كبير على مستوى الجمعيات المهتمة بذوي الاحتياجات الخاصة والصعوبات التعليمية، لا سيما وأن إغلاق هذه الجمعيات بات يزداد كل يوم مع بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان منذ عام 2019. أما فيما يتعلق بالجمعيات التي ما زالت مستمرة، فقد شهدت نوعية الخدمات المقدمة فيها تراجعًا واضحًا إن كان على المستوى الصحي أو التعليمي، فضلًا عن لجوئها إلى سياسة التقشف لتتمكن من الاستمرار لفترة أطول.
أمام هذا الواقع يظهر تحدٍ آخر أمام ذوي الاحتياجات الخاصة، وبالتالي أولياء أمورهم، وهو محاولة إيجاد بديل في حال إقفال الجمعيات المساندة والراعية، وهنا تكون الخيارات عادةّ معدمة إذ لا وجود لبديل عنها، مما يخلق بالتالي أزمة جديدة، وهي بقاء التلميذ أو الشخص الذي يعاني من هذه الصعوبات في منزله، مما يعني مأساة كبرى بالنسبة له ولذويه.
وفيما يتعلق بالمسار التعليمي للأطفال من ذوي الصعوبات التعليمية في لبنان فهو في الواقع مليء بالعثرات التي تعرقل تجربتهم المدرسية، إذ تقول منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في تقرير لها، إن الأطفال من ذوي الصعوبات التعليمية مستبعدون من المدارس الرسمية بسبب سياسات القبول التمييزية.
وتجدر الإشارة، إلى أن الكثير ممن لديهم صعوبات تعليمية في المحافظات البعيدة عن بيروت محرومون بشكل عام من الالتحاق بمؤسسات ومراكز تعنى بهم، على عكس محافظتي بيروت وجبل لبنان، فضًلا عن نقص الموظفين المدربين تدريبًا كافيًا للاعتناء بهم، وغياب البرامج التعليمية الأكاديمية اللازمة بهذا الشأن.
وفي هذا الإطار، تشير الإحصاءات وفقًا لبرنامج تأمين حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى وجود 8 آلاف و558 طفلًا من ذوي الاحتياجات الخاصة مسجلون، تتراوح أعمارهم بين 5 و14 عامًا، وهي سن التعليم الإلزامي.
مسؤولية الرعاية والمساندة مشتركة
أمام ما يشهده واقع “أصحاب الهمم” اليوم من صعوبات ومعاناة، وفي محاولة لمواجهة هذا الواقع المأزوم بالقدر الممكن من الإمكانيات والمساندة والدعم، ثمة مسؤولية مشتركة تقع على كل من العائلة والمدرسة والمحيط والدولة بمؤسساتها. هذه المسؤولية تبدأ عند الأطراف الأقرب لمن لديهم احتياجات خاصة، وهي الأسرة في المقام الأول، إذ من الضروري جدًا أن يتعاطى الأهل بمسؤولية مع الطفل الذي تظهر عليه علامات التأخر العقلي أو الخلل في النضج، وأن يلجؤوا لاستشارة المختصين بالأمر في وقت مبكر، وأن يحاولوا قدر الإمكان تأمين العناية الطبية والنفسية اللازمة.
المسؤولية تقع في المقام الثاني على المدرسة والمحيط، لما لهم من دور فعال في دعم ذوي الاحتياجات الخاصة، ومساعدتهم على مواجهة التحديات التعليمية والاجتماعية التي تواجههم، ونحن بالتالي بحاجة هنا إلى تغيير في الثقافات والسياسات والمناهج والممارسات لاستيعاب الاحتياجات المختلفة وإزالة الحواجز.
وفي هذا السياق، ورغم أن القانون اللبناني يحظر صراحة التمييز ضد الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة أثناء اتخاذ قرارات القبول، فإن القبول في المدارس الرسمية والخاصة ما زال يعتمد على تقدير المعلمين ومدراء المدارس، فضلًا عن دور “الواسطة” وأهميتها في العملية ككل، ما يؤدي إلى استبعاد العديد من الأطفال.
لم تكن مسؤولية الدولة محددة فقط بإصدار القوانين التي تحمي حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والصعوبات التعليمية، لأن هذه القوانين تبقى بمعظمها “حبر على ورق”، بل إن المسؤولية تمد إلى دور المؤسسات الرسمية المعنية في تأهيل المدارس بنياويًا وأكاديميًا وتوفير المختصين وتدريبهم فضلًا عن تأسيس المراكز اللازمة في مختلف المناطق للمساعدة في تأمين الرعاية الصحية والاجتماعية اللازمة لأصحاب الهمم.