أواخر العام 1945، نشر برنارد برودي، أحد أبرز “مُنَظِّري” الاستراتيجيّة النوَوِيّة الأميركيّة، ورقة تحليليّة حول “الرّدع” النووي القادم، كتب فيها جملة شهيرة تداولتها الأروِقة السياسية الحاكِمة والمؤسّسات العسكرية “العُظمى” على مَرّ العقود: “حتى الآن كان الهدف الرئيسي لمؤسستنا العسكرية هو كسب الحروب، ومن الآن فصاعدًا يجب أن يكون هدفها الرئيسي تَجَنّبها”.
تلك كانت فاتحة “عهد” مفهوم الرَّدع، بعدما كان يقتصر سابقًا على التهديد والوَعيد بين الدوَل والمجموعات المتناحرة، من دون وجود قواعد تقنيّة تحكم مسار ذلك الردع وتضمن تحقيق سبُلَهُ المنشودة.
منتصف القرن العشرين، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حدَثَت ثورة تَحَوُّليّة في العلاقات الدولية والعلوم العسكرية والسياسية والعلاقات الاقتصادية. يمكننا تسميَتُها ثورة “تنقيح” المفاهيم، بعدما مَرَّ العالم بفترات صلبة وتنازع دام قرونًا، وصلت ذروتها في النصف الأول من القرن الماضي، وكانت الفترة القصيرة التي تَلَت الحرب العالمية الثانية تمثّل حقبة “الاستنتاجات” والعِبَر، وخصوصًا في الوعي العسكري بين الأُمَم.
بلا طول سيرة، لسنا معنيّين في هذا المقام بالحديث عن أشكال الرّدْع الكلاسيكيّة، فهي معظمها منوطة بسلوك الدوَل الكُبرى المُهَيمِنة على الحجر والبشر، من العقوبات إلى الحرمان وغيرهما من الأساليب التي تَتَّخِذها دول السيطرة، بقيادة الولايات المتّحدة الأميركية، لترهيب ورَدع الدول الأخرى عن القيام بأي تَمَرُّد على عباءة الامبراطوريّة المَتَسَلّطة. إن ما يعنينا نحن أُمَّة غرب آسيا، مسارَا ردع مُتوازِيَان ويرتبط أحدهما بالآخر: ردع “إسرائيل” عن ارتِكاب أعمال عدائية والاعتداء على بلدانِنا، وهو مسار تم ترسيخه في لبنان بشكل مُتقَن ويجري تثبيته الآن داخل فلسطين المُحتَلّة عبر المقاومة في قطاع غزة بشكل أساسي، أما مسار الرّدع الآخر المطلوب، فهو باتجاه أميركا، بحيث السعي نحو منعها من العبث في بلداننا والتخريب داخل كيانات المنطقة، وهو الذي لا يزال العمل جارٍيًا على تفعيل سياسات معادلاته والسعي للوصول إلى مراحل تسمح للدوَل وقوى المقاومة في المنطقة بالوصول إلى مصافّ تحقيق هذا الهدف المنشود. وطبعًا فإن التَغَيُّرات العالمية الحاصلة تؤثّر حتمًا على كِلا المسارَين.
تختَلِف طبيعة الصراع داخل منطقتنا عن بقيّة الصراعات في العالم. فصراعنا اليوم ليس على مساحات حدوديّة متنازَع عليها، ولا يكمن الصراع داخل إطار تربُّص دوَل المنطقة ببعضها البعض أو طَمَع بعضها ببعضها الآخر وما شاكل، إنما يقبع الصراع المُمتَد منذ ما يقارب القرن ضمن سمة الصراع الوجودي. فهناك كيان اغتَصَب أرضًا عربية بمساعدة دول الاستعمار السالفة، وأنشأَ عليها دولة مزعومة. وعلَيه، فإن الخلاصة الأولى التي نَستَخلِصها هي أن بلادنا مُعتدى عليها في كل الحالات، وهناك معتدٍ لا يتبَدَّل دوره في كل مفاصل الصراع. وبالتالي، فإن “جدال” الرّدع قد تختلف خصائصه في هذه المعرَكة، وتختَلف مع ذلك مؤشراته وأدوات قياسه وطريقة الرَدّ في جَولاتِه القتالية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى النقاط التالية ضمن مسألة إرساء الردع ومعادلاته:
أولًا: تقول الحكمة إن القوّة هي العلاج الوحيد للقوّة. وهذه خلاصة أخرى، أن المعيار الأول في معركة رَدع عدوّك “الوجودي” هو القوّة. أن تمتلك القوة، بما تحتويه من شجاعة وإقدام، في وجه عدوّك المعتدي عليك. وليس لزامًا لتلك القوة أن تكون ماديّة بحت، أو مطلقةً، ولا حتى المطلوب أن تكون قوّتك، بمعنى المقدّرات، توازي تلك التي يمتلكها العدوّ، وهو الذي تدعمه أعتى الدوَل في العالم وأغناها وأكثرها نفوذًا وسيطرةً على الموارِد. وبالتالي، فإن الانتظار لِتَمَلُّك قوّة “مادية” توازي فيها ما يمتلكه العدوّ هو إحباط ويأس، وبالتالي انتِحار. والمطلوب هنا إدارة المقدّرات بفعالية، والاستفادة القصوى منها، تبعًا للمثل الشعبي القائل “جود بالموجود”.
ثانيًا: ورد في موسوعة علم العلاقات الدولية أن الردع “عبارة عن استراتيجية يهدد بموجبها الطرف الأول، بإنزال عقاب قد يقنع الطرف أو الأطراف الثانية بأن تكلفة العمل العدائي الذي يراد القيام به سيفوق بأي حال من الأحوال النتائج التي قد تترتب عليه”. إذًا العامل الآخر في معركة الرّدع يكمن بالتكلفة. على عدوّك أن يفهم، بالمعطيات والقرائن، أن أي عمل عدائي سيلقي عليه تكلفة عالية على كافة الصعُد، وأنه سيتلقّى العقاب المناسب والمُتَناسِب على ما اقترفته يداه اتجاه أصحاب الأرض. ليس بالضروري أن يكون الأذى كميًّا، إنما المطلوب هو الأذى النَوعي الاستراتيجيّ، التي يؤثّر على معادلات الصراع طويلة الأمد وليس الموضعيّة. وهنا لا بدّ أن لا يغيب عن بالنا أن ماهية المعركة وجوديّة، يعني أن الهدف الأسمى هو طرد العدو عن هذه البسيطة، وبالتالي فإن هذا الهدف يتَحَقَّق بشكل تراكمي، وأي جولة داخل المعركة الكُبرى يجب أن تشكّل تقدّمًا نَوعيًا، ينسف ما قبله ويؤسّس لمرحلة جديدة للمستقبل تخدم الهدف الأعظم.
ثالثًا: عندما تقرّر مواجهة عدوّ يحوز على تلك الإمكانيات الضخمة والدعم الهائل من الدول الغربية، فإنه عليك امتِلاك إرادة ضخمة توازي تلك الإمكانيات التي يمتلكها العدوّ. هنا نحن نتكلّم عن الإرادة الواقعية والثقة -المبنيّة على وقائع- بتحقيق الأهداف. وهذا ما يُطلق عليه تسمية حرب الإرادات، وتكون الغلبة فيها دائمًا للفريق الذي يمتلك الإرادة الأصلَب. تتفوق شعوب الأرض على العدوّ في ميدان الإرادات. وهذا طبيعي وفقًا لطبيعة الصراع الذي أشرنا له ضمن سياق المقال. وقد فشل العدو في كسر إرادة أصحاب الأرض منذ احتلال فلسطين، وهو الذي يعرف جيدًا أن غياب الإرادة يعني الخنوع والخضوع والاستسلام، وهو الذي يريده لحسم الصراع لصالحه والاستيلاء على المنطقة للأبد.
رابعًا: تلعب الحرب النفسية دورًا بارزًا في إرساء توازن الردع، وقد برعت فيها حركات المقاومة في المنطقة. ويُشتَرطُ ممارسة هذا النوع من الحرب على الصّدق، واقتناء المصداقية واكتسابها، فإن الحرب النفسية ليست خديعة، من يمارسها عن طريق الباطل سيخسر الرهان بالنهاية وستنكشف هشاشة معادلاته وتفقد ثمارها وفعاليّتها لذلك نرى قوى المقاومة تربح في الحرب النفسية، بالرغم من محاولات العدو في إرساء الإحباط داخل وعي الشعوب، إنما تأتي الأحداث تواليًا لتدحض مزاعم الاحتلال وتبطل مفاعيل حروبه النفسية. وما بنِيَ على باطل فهو باطل.
خامسًا: المطلوب العقلانية في سلوك وحدات المقاومة وعدم التسرُّع في رد الفعل العدواني الذي يجريه العدوّ. إن معادلة الرّدع دقيقة جدًا ونقطويّة، والعدوّ المتربّص لن يترك فرصة لاستدراج المقاومة نحو المستنقع الذي يحطّم توازن الردع لصالحه. هو عدوّ يمتلك كافة الموارد التي يطلبها، وفي خدمته كل مقدّرات العالم التقنيّة والتكنولوجيّة والمعلوماتيّة والاستخباراتية والتخطيطيّة، وما يخطر في البال وما لا يخطر أبدًا. وأي تصرّف غير عقلاني ضدّه يمكن أن يؤدّي إلى فقدان تراكم إنجازات ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وهذا لن يكون في مصلحة بلداننا نظرًا لما ذكرناه من أن طبيعة الصراع تراكميّة.
كل ما قيل لا يتحقَّق من دون امتلاك المعرفة الكاملة عن العدوّ. معرفة العدو هي الإجراء البديهيّ في هذه المجابهة. دراسة سلوكه، متابعة شؤونه الداخلية، الاطلاع على أحواله العسكرية، وعدم ترك أي مُعطى بشكل مستمر ومتواصل.
بناءً عليه، إن مسألة الرّدع ليست مسألة مادية بحتة، إنما هي معادلة “فنية” تحتاج إلى احتراف وتقانة ومهارة، والأهمّ أنها ليست معادلة ثابتة وعابرة للصراعات، إنما تتّخذ هويّة الصراع الذي تدور فيه وخاصيّة المجابهة القائمة.
إن ما يجري اليوم في فلسطين المحتلّة، يندرج تحت إطار الرّدع. إن نيّة المقاومة التي تظهر من خلال سلوكها الجاري خلال الجولة العسكرية القائمة، بعد اعتداء العدوّ على قطاع غزة واغتيال عدد من قادة المقاومة فيها، تؤكّد عدم التساهل في قضيّة الردع القائمة، وعدم السماح للعدوّ بتقويض ذلك الردع لمصلحته. المقاومة قالت للعدوّ اليوم إنه ولّى الزمن الذي تضرب فيه وتهرب من دون دفع أثمان. ولّى الزمن الذي تَتَحَكَّم فيه بالطلقة الأخيرة. ولّى زمن المفاوضات من دون تحمّل التكاليف. تمزج المقاومة بين كافة مبادئ الردع، وتصنع نظريّاته الميدانية بزنود مقاوميها الثائرين. يقف العالم اليوم مندهشًا أمام إنجازات أهل الأرض المحاصَرين من كل الجهات. المقاومة الفلسطينيّة اليوم تصنع المعجزات، وترسم خطوط الردع القادم، الذي سيكون مسمارًا آخر، ثمينًا، في نعش العدوّ الصهيونيّ الآيل إلى الاندثار.