بأمر من صواريخ المقاومة، يهتز كيان العدو، وينصهر حديد قبته وتتهاوى، وتتحرر الأرض بمسافة بين قصفين يذل بها المحتل ومغتصبيه فتراهم يُدحرون منها إلى جوفها كالجيفة…
فالمقاومة تستعيد برشقات صواريخها أراضينا المغتصبة، وبحرنا الذين ولّوا منه عراة كما دخلوه، وتنذرهم بأن هذه ليست إلا بداية للرد الذي بحق دم الشهداء سيذيقهم الويلات في أعقاب أيام سوداء تنتظرهم بعملية ثأر الأحرار.
الردّ الذي أبت المقاومة إلاّ أن يكون مزلزلًا؛ ردًّا على مجازره الأخيرة التي اقترفها وما زال بغدرٍ ما بعده غدر، إذ استغرقت عملية التنفيذ من العدو؛ أشهر، وأيام، وليالٍ، وهو ينتظر لحظة المكر، حتى غفا قادة المقاومة، ليباغتهم بآلة حربه الجوية الإرهابية، وبقصف غزة المدينة التي اشتعلت لهبًا، ونارًا، ودخانًا، وثأرًا، قبل بزوغ الفجر.
وذلك ما اعترف به جيش المحتل على لسان الناطق بإجرامه إذ قال “كان هناك تضافرًا بين المعلومات والتوقيت والطقس”، المعلومات التي جمعوها عن كثب منذ أعوام بمساعدة عملاء وجواسيس، كذلك الطقس الذي قصدوه يُعني الموسم الذي تشتدُ فيه خيانة الوسطاء وأنظمة عرب وظيفية، أما التوقيت هو لحظة نوم القادة التي حتى بها كان يرتجف العدو الذي لا يجرؤ عليهم بالميدان كونه يدري حال مواجهتهم أحياءً سيعود جنده أشلاءً متناثرة ككيانه المتشرذم بوحل السقوط المرتقب، ولذلك قصد الجو الذي لوثه بصواريخه وتفجيراته بمساندة أكثر من 40 طائرة حربية، حتى غطّت الغارات والمتفجرات سماء الله التي نادت ربها بأن يساندها “بطير أبابيل تلقي حجارة من سجيل” حتى تسحق بني صهيون.
كذلك سماء الله استقبلت عقب تلك الليلة الكالحة الشهداء القادة وعائلاتهم، بعد أن طهرّت دمائهم العفيفة الأرض التي يجهش من عليها بالبكاء على رحيل خير الرجال وهم يتناقلون حكايا نُبلهم حتى استشهادهم التي هي مبتغاهم، وكيف لا! “فإن من يسكن هذه الأرض ولم يربح الشهادة فقد خسر” هكذا صدح عضو القائد في سرايا القدس، خليل البهتيني الذي شدد على عظمة الجهاد في البلاد المباركة، والحياة بشرف بمقاومة الكيان الغاصب وقصفه، تاركًا قبل ارتحاله آخر ما أراد تسجيله في حياته على الأرض بقوله إن “مقاومي فلسطين كالشوكة في حلق هذا الكيان، ولن يساوموا، أو يفرطوا بذرة تراب من وطنهم”، وحقاً كان ولا زال شوكة حتى بعد أن اغتاله العدو وزوجته ليلًا وهو يحتضن طفلته هاجر لتصعد رفقتهما إلى الجنان، تاركة لأقرانها إجاباتها عن سر فخرها بأبيها وفرحها بلقياه في كل مرة كان يفاجئها بقدومه إلى روضتها.
والأجوبة ذاتها تركها علي، وميار، لزملائهما حين فضّلا الذهاب برحلة الشهادة مع والدهما طارق عز الدين على التوجه للرحلة المدرسية التي كانت مقررة في اليوم التالي، وكأنهما كانا يقتربان لحظة الاغتيال أكثر وأكثر منه كلما اشتد القصف ليمنعا الاحتلال من اختطافه منهما كما فعل سابقاً باعتقاله.
أما وفاء تجلّى بها معنى الوفاء لرفيق دربها جهاد غنام القائد في سرايا القدس، فحين استقبل طيف الشهادة الذي كان ينتظره أمسكت به لتحيا معه مرة أخرى في دار الخلود.
وعلى بعد أمتار فضحت دموع الطفلة ميرال سلسلة الجرائم التي يرتكبها المحتل في غزة، إذ أخذ صوتها يعلو وهي تنادي على أبيها جمال خصوان، طبيب الفقراء، الذس كفكف دمعها بإرساله لها بشرى انتزاع الثأر، وهو يعتلي المجد رفقة أمها وشقيقها اليوسف.
المشهد المفجع ذاته أعادته صرخات طفلة القيادي علي غالي وهي تتوعد الاحتلال وعملائه، وكل من تورط بسفك دم أبيها.
ولم تنتهِ حكايات الساعات الأخيرة إلى هنا فلكل شهيد ارتقى قصة ختمها الدم الطاهر، والوجع سيد المشهد في غزة التي ودّعت منذ فجر الثلاثاء حتى اللحظة 26 شهيدًا في عدوان الاحتلال الإرهابي.
فالآلاف يودعون أقمارهم وهم يرتقون إلى الله، واللقطات تفتك بقلوبنا، فهنا زفّت الجبهة الشعبية، نسور كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، محمد وعلاء أبو طعيمه، وأيمن صيدم، وعلم عبد العزيز، أبطال ملحمة الثأر الذين ارتقوا شهداء، بعد أن اغتالهم الاحتلال الغاشم.
وبين أروقة مستشفى ترى أب جريح يودع نجله الشهيد، وطفلة تنظر إلى حطام منزلها لتفاجئ بانتشال والدها الشهيد من تحت الأنقاض، وأم تردد بابتسامة تداري الدمع “يا أم الشهيد وزغردي كل الشباب أولادك”، وشاب يبحث بين الحطام على مقتنيات خطيبته، يمسك هويتها بيد وبأخرى صورتهما سويًا يتمعنها ويقول بشجن “إنها كل حياتي كل دنيتي”، لكنها رحلت عن الدنيا واختارت أن تزف شهيدة وطن أثقلته الجراح.
الجراح هذه التي لا تلتئم إلاّ برد المقاومة الذي لا حدٍ له، ولا سقف لتوقعه، وهذا ما أكدته الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في بيانٍ زفت به الشهداء الأبرار، وهي تؤكد استمرار انتزاع ثأر الأحرار بالقول “إننا على عهد الشهداء، ولن نتراجع ولن تزيدنا الاغتيالات إلا قوة، وإن ثأرنا مستمر، ونقول للعدو الجبان بأنه بتوجهه لسياسة قصف المنازل الآمنة يخطئ التقدير، وأن يد المقاومة الثقيلة قادرةٌ على إيلامه”.
ويا لطُهر أيادي المقاومة التي تحترف ردع العدو وتسديد الثأر، وتحويل كيان العدو لجحيم، بفعل صواريخ المجد وهي تعلو في البلاد المحتلة، وتُسقط إصابات وقتلى بين مغتصبيه الذين فروا إلى جحورهم صاغرين مع حكومة “دولتهم” المزعومة.
وما هذا إلاّ صورة مصغرة لجحيم الكيان الأكبر الذي بات أقرب مما يتصورون هم وأذنابهم في المنطقة الذين والله لن يسلموا..