د. حسن أحمد حسن* – خاص الناشر |
عندما يضيق البلعوم الأمريكي بابتلاع مرارة هزيمة موصوفة، وهو المعروف بقدرته على ابتلاع دول وقارات دون أن يرف لأي مفصل من مفاصل صنع القرار الأمريكي جفن، فهذا مؤشر إلى تآكل القدرة على التمثيل والخداع والكذب والتضليل. وها هي مؤشرات الواقع وحقائقه تؤكد أن الوهم والزيف والتهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور التي كانت تلوّح بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في وجه كل من يفكر أن يقول لها “لا” ولو مجرد تفكير ليست أكثر من تنمردٍ على الجبناء، وتفرعنٍ على المترددين الخائفين المرعوبين من أن ينالهم غضب واشنطن وبطشها وعقابها الذي لا طاقة لأي طرف على احتماله وفق المخيلة المريضة التي كانت سائدة. هذا البعبع المهول ممثلًا بواشنطن بكل جبروتها تعبّر خارجيته عن قلقها وضرورة أن يقلق العالم أجمع من زيارة قام بها فخامة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي إلى الشقيقة سورية بعد صمود أسطوري على امتداد اثني عشر عامًا في مواجهة جحافل الإرهاب التكفيري المسلح الذي تم تجميعه من شتى أنحاء المعمورة والزج به في الداخل السوري ودعمه بكل أشكال الدعم التسليحي واللوجستي والدبلوماسي والإعلامي، الخ… على أمل أن تنهار سورية، ليتم اعتمادها منصة متقدمة للتقرب أكثر من إيران الثورة التي رفعت راية الندية والتحدي، وكانت على قدرهما، واستطاعت أن تسهم بكفاءة عالية في تآكل الهيبة التي حكمت بها واشنطن غالبية العالم على امتداد عقود.
هذه ” الواشنطن” نفسها تعبّر اليوم علنًا عن قلقها من زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، وليس هذا فحسب بل ترى في الزيارة أمرًا يتطلب إثارة القلق في العالم أجمع، وهذا يعني أن الزيارة أكثر من ناجحة وتتجاوز المتعارف عليه بالزيارات الإستراتيجية بكل المقاييس، وقد يكون من المفيد مساعدة أولئك القلقين ببعض المهدئات من وقت إلى آخر لضمان الحفاظ على متحف الخزف الفاخر من هيجان فيلة كثرت جراحاتها النازفة والخطيرة، وفي أكثر من موضع من أجسادها الضخمة.
الأمر ذاته تكرر بشكل أكثر غنى بالدلالات عندما انشغل إعلام الكيان الصهيوني بالزيارة فتصدرت البرامج الحوارية على شاشات التلفزة المعادية التي أجمعت على أن الزيارة تعني إعلان انتصار إيران ومحور المقاومة. وبقراءة موضوعية للموقفين المعلنين من واشنطن وتل أبيب يتضح أن الزيارة أزهرت وأثمرت منذ ساعاتها الأولى، وقبل أن تختتم فصولها الغنية والكفيلة بزيادة قلق وتوتر واضطراب أعظم جبروت عسكري واقتصادي عالمي ـ حتى الآن ـ ممثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها المأزومة في الكيان اللقيط، وهو ينتقل من إخفاق إلى آخر أشد وأقسى في ظل ازدياد الشروخ الداخلية والانقسامات المتعددة والمتزايدة أفقيًا وعموديًا مع ازدياد تآكل ما تبقى مما كان يسمى عوامل الردع التي أدت أوتوماتيكيًا إلى زيادة معدلات الهجرة العكسية، وهو أخطر ما يواجه حكام تل أبيب.
هكذا يتضح أن الزيارة أفرزت قمة من نوع جديد هي قمة التوتر والاضطراب وفقدان البوصلة والقدرة على تحديد الأولويات ضمن خيارات ضيقة، وجميعها كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، فقمة القلق عبرت عنها الخارجية الأمريكية، وقمة اليأس والحيرة والتشوش والضبابية ظهرت عبر الإعلام الإسرائيلي الذي أضاف إلى القلق الوجودي الذي يحكم جموع المستوطنين حججًا عقلية تؤكد أن التنعم بعسل التطبيع المشتهى سرعان ما قد تنتهي صلاحيته قبل أن يطرح في بازارات التداول الآسنة، ولعمري هذه ميزة ذاتية تفردت بها زيارة السيد الرئيس رئيسي إلى دمشق التي استقبلته بما يليق بمحور المقاومة ودوره الفاعل والمتصاعد إقليميًا ودوليًا.
بالمقابل وعلى الضفة الأخرى من الزيارة تبلورت القمة التاريخية التي جمعت السيدين الرئيسين الأسد ورئيسي في أبهى صور التنسيق والتعاون والتكامل المثمر والبناء، وفي شتى جوانب العلاقات الثنائية الواعدة بالكثير مما يزيد محور المقاومة قوة ورسوخ بنيان وعزيمة وإرادة كفيلة بإتمام لوحة الصمود وإعادة تشكيل المنطقة بما ينسجم وتطلعات ومصالح شعوبها، لا بما يتساوق وأطماع أعدائها المتربصين شرًا رغم الخيبات المتتالية التي يمنون بها تباعًا.
باختصار شديد يمكن توصيف الزيارة وتلخيص مضامينها بأنها زيارة بقمتين: قمة اليأس والاضطراب لدى المحور المعادي، وقمة الأمل واليقين بإتمام معالم النصر الحتمي والناجز والقريب إن شاء الله لدى محور المقاومة الذي لا يخشى ولا يستهين بقدرة العدو على المخاتلة واقتناص الفرص، وهذا يعني استمرار مراكمة أوراق القوة، والاستعداد التام والدائم للتعامل مع كل السيناريوهات المحتملة بما في ذلك أسوأ ما قد يخطر على بال أصحاب الرؤوس الحامية إذا ما فكروا بالهروب إلى الأمام.
- باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية