لطالما كان السودان، حتى سنوات خلت، يغرد خارج السرب الأمريكي هو وقلة قليلة من الدول العربية التي لم تكن تخضع للإملاءات الأمريكية وخاصة في موضوع الصراع مع العدو الصهيوني وفي مسار القمم العربية. وكانت قمة الخرطوم مميزة جدًّا بعد هزيمة عام 1967 حيث عرفت بقمة اللاءات الثلاث “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض”.
رغم دخول الدولة العربية الأقرب للسودان – أي مصر – مسار الصلح مع العدو الصهيوني مع حكم السادات، والتي هي بالنسبة للسودان لها تأثير أساسي في مجال السياسة الخارجية السودانية، وكذلك الارتباط الاقتصادي والتجاري والخدماتي، والترابط التاريخي الشامل بما يسمى شعوب وادي النيل، إلا أن السودان لم يأخذ المنحى المصري فيما خص السياسة العامة المصرية بالتعاطي مع الإدارة الأمريكية ومتطلباتها، ولا بموقف مهادن تجاه القضية الفلسطينية، وهذا ما جعل الأمريكيين يفرضون سلسلة طويلة من العقوبات بحقه بدأت منذ عام 1988 واستمرت الى وقتنا الحاضر.
شكل السودان مع مجموعة قليلة من الدول العربية نوعًا من التوجه السياسي داخل الجامعة العربية ضم إلى حد ما سوريا ـ الجزائر ـ ليبيا ـ لبنان ـ والعراق كتكتل معارض لسياسات الدول العربية التي تسير في الركب الأمريكي وتخضع لإملاءاته.
منذ ما قبل الربيع العربي كان السودان في عين العاصفة الأمريكية التي كانت تصر على منعه من أي تطور كدولة لديها مقدرات اقتصادية وموارد بشرية وأولية. ومع سلسلة الحروب التي خاضتها الدولة السودانية في سبيل الحفاظ على وحدة أراضيها، عملت الإرادة الأمريكية والإسرائيلية على تقسيمها وفصل ما سمّي بجنوب السودان الذي كانت من أوائل خطواته فتح العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وفتح مجال جغرافي وحضور استخباراتي إسرائيلي على خط كان يستخدم لإمداد غزة بالسلاح.
ما وصل إليه السودان اليوم هو نتيجة الترهيب الأمريكي والترغيب العربي والفوضى المقنعة بالثورات الملونة، فالترهيب الأمريكي بالعقوبات فصل جنوب السودان، والترغيب العربي بوضع اقتصادي أفضل سحب السودان إلى محور التطبيع، والثورة الملونة أدخلته في أتون الصراع الذي نشهده اليوم.
وإذا ذهبنا إلى الاحتمال الأول أي أنه لو بقي السودان على موقفه الرافض للسياسات الأمريكية فمن المؤكد أنه لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه اليوم من فوضى وانقسام في أجهزة الدولة وهذا الذي ربما سيؤدي إلى تفتيت أكثر لهذه الدولة وتحولها إلى أقاليم منفصلة ودويلات تتقاسم مواردها وتنهب ثرواتها لتعطى بالمجان إلى الدول الأجنبية والغربية.
وفي المقارنة إن ما تعرض له السودان من ضغوط وعقوبات وترغيب وترهيب، تعرضت له سوريا بأضعاف مضاعفة، وما عرض على سوريا من إغراءات للتخلي عن دعمها للقضية الفلسطينية كذلك كان أضعافًا مضاعفة على ما عرض على السودان. إلا أن القيادة السورية كانت أكثر استشرافًا لما يحاك لسوريا ورفضت كافة العروض والإغراءات التي عرضت عليها لفك ارتباطها بالقضية الفلسطينية ومحور المقاومة، وهذا ما جعل المحور الأمريكي يحاول القيام بعملية قيصرية لاستئصال النظام السوري وتدمير الدولة السورية عبر جيوش الإرهاب البديلة للعسكر الأمريكي، بل اضطر الأمريكي لتبني مشروع تدمير سوريا علنًا بحضور واحتلال عسكري أمريكي مباشر على الأراضي السورية من التنف إلى منطقة الجزيرة وحقول النفط، وهذا ما جعل الموقف السوري في المحافل الدولية أقوى واستطاعت الدولة السورية الاستعانة بحلفائها الإقليميين والدوليين لمواجهة المشروع الأمريكي الذي ظهر هدفه بشكل واضح وعملي أمام الرأي العام العالمي المتمثل بتدمير الدولة السورية وقوتها العسكرية وفك تحالفها مع محور المقاومة.
صحيح أن الدولة السورية خسرت الكثير في هذه الحرب ونتحدث هنا عن الخسائر البشرية والاقتصادية إلا أن ما استطاعت الحفاظ عليه هو وحدة الدولة المركزية ووحدة النظام المسيطر ووحدة الجيش وعدم ظهور رؤوس متعددة داخل سوريا لها ارتباطاتها المختلفة كما جرى ويجري في السودان، فالخضوع للشروط الأمريكية في السودان جعل فصل جنوب السودان يسير بسهولة بينما رغم الحرب في سوريا لم يستطع مثلا الأكراد رغم إعلانهم عن إدارة مدنية في مناطقهم لم يستطيعوا السير في مشروع انفصالهم عن الدولة السورية ولا خروجهم بالمطلق عن مظلة دمشق.
وبالتالي فإن مصير السودان الذي وصل اليه اليوم سببه الخضوع والتنازل أمام الأمريكيين الذين يعاقبونه على موقفه السابق من القضية الفلسطينية وعلى موقفه من القضايا العربية بشكل عام ولأنه قال يوما لا لأمريكا فمن قال لا لأمريكا يوما ما ثم تراجع عوقب على رفضه ولم يسامح حتى بعدما قبل الشروط الأمريكية.
في الخلاصة لو بقي السودان على ما كان عليه من رفض للإملاءات الأمريكية والضغوط المختلفة من الدول لكان اليوم يسير في مسار مختلف فعلى الأقل كان قد وضع بشكل جدي في مسار الاستثمارات الصينية المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، إضافة إلى أن التحول الجيوسياسي العالمي الذي يحدث اليوم كان للسودان تموضع مختلف مع بقائه موحدا جغرافيا وسياسيا بينما مسار التطبيع أوصله للتشتت والضعف والحرب الأهلية وما يتبعها من نهب للموارد وتشتيت للكتلة السكانية وتحول الشعب السوداني لشعب نازح وهارب ومشرد في الدول المجاورة مع هروب كافة الاستثمارات الخارجية والرساميل التي تستطيع بناء قاعدة اقتصادية لمثل هذا البلد. وفي الحساب النهائي استطاعت سوريا أن تبقى سوريا واحدة وحافظت على وزنها الجيوسياسي وهذا ما ترجم ويترجم حاليا بعودة الدول العربية الى فتح العلاقات الدبلوماسية والحديث عن عودتها للجامعة العربية والاجتماعات الوزارية التي تعقد بين سوريا ودول الجوار ودول الرباعية التي تضم روسيا وإيران بينما يذهب السودان الى فقدان ما كان يمكن استغلاله من تحول في موازين القوى العالمية والانتقال باقتصاده الى مرحلة متطورة بالتعاون مع القوى العالمية الجديدة.