يَنبُتُ المشروع الاستعماري داخل الأراضي الناشِطة بالنِزاعات. ولَطالما شَكَّلَت النِزاعات الداخِليّة مساحةً خَصبَةً لِقوى الهَيمنة العالميّة ضمن مُخَطَّط سَيطَرَتها على الموارِد الطبيعيّة داخل البلد المُتَنازَع فيه. واحتاجَت، لأجلِ ذلك، أن تَصطَنِعَ البيئة الخصبة لمشاريعها عبر إحداث أرضية صالحة للتقاتل الدائم، حتى لو لم يكن تقاتلًا صلبًا في الكثير من الاحيان، إنما اختِلاق خلايا اجتماعية “انفجارية” راكدة تحت الرماد، تَمتَلِك تلك القوى وحدها قوة التَحَكُّم بسلوكها. إضافةً إلى مشاريع التقسيم التي تتقاسمها قوى الهَيمنة من أجل إزالة أي عائق ديموغرافي يقف أمام أطماعها.
ومنذ قرون عديدة خَلَت، مَثَّلَت القارة الأفريقيّة الوُجهة الرئيسيّة للاستعمار الأوروبي، من الفرنسيّين إلى البريطانيّين إلى البرتغاليّين إلى الدانماركيّين وغيرها من الدوَل والامبراطوريَّات التي غَزَت أفريقيا واستَولَت على مواردها الطبيعية ونَهَبَت خَيراتها، وعاثَت فيها الفِتَن والتمزيق. وقَد اشتهرت “القارة السمراء” منذ القرون الأولى بخصوبة أراضيها الزراعيّة واكتِنازِها كميّات كبيرة من المعادن الثمينة، إضافةً إلى موقعها الجغرافي الذي يُشرِف على أهم ممرات التجارة البحرية العالمية.
أميركا أيضًا، حَظِيَت بالهَيمنة على القرار الإفريقي، السياسي منه والاقتصادي، خصوصًا إبّان “ثَورَتِها” الرأسماليّة المُتَجَدِّدة ابتِداءً من بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وقد “رَوَّضَت” الحالة العَسكرية في البلدان الأفريقية وجعلتها ورقة رابحة في يدها تَتَحَكَّمُ بها وتستَخدمها بِشَتّى الأساليب.
لم تَعتَرف الدول الغربيّة يومًا بالكيان الإنساني الأسمَر، وهي التي بَنَت حضارتها على ظَهرِه وعبر سرقة مواردِهِ وخيراته وتَرَكَتهُ يَتَضَوَّر جوعًا، إنما اعتَبَرَته وسيلة “رخيصة” لاستجلاب المال وتأمين الموارد على حساب الشعوب “السَّمراء”. الإنسان الأفريقيّ بالنسبة إلى أوروبا “عَبد” لا يصلح أن يكون إنسانًا صاحب قرار سياديّ ومبادئ إنسانيّة. نتيجة لذلك، وقَعَت جُلّ الدوَل الأفريقيّة ضحيّة للسَّطوة الغربيّة، فاشتَعَلِت الحروب الأهلية، وتَضَخَّمَ العُنف بين أبناء الوطن الواحِد، وقَسِّمَت البُلدان وتَشَتَّتَت أوصالها.
السودان: آخر الضحايا
ورد في كتاب “تاريخ السودان” (نعوم بك شقير 1914)، عدة أسباب وراء حملة محمد علي باشا على #السودان سنة 1820 وهي: “الاستيلاء على مناجم الذهب، وإمداد جيشه برجال من السود اشتهروا منذ أيام الفراعنة بصلاحيتهم للجندية وشدة بأسهم، واستئصال شأفة المماليك في دنقلة، وتوسيع أبواب الرزق لأنصاره الأتراك والمغاربة والأرناؤوط، واكتشاف منابع النيل لنفع العلم والزراعة المصرية، وتوسيع نطاق التجارة المصرية والانتفاع بموارد التجارة السودانية”.
إن المسار الاستعماري يشبه حركة التاريخ بفلسفتها، بحيث تبقى نواة الأهداف الاستعمارية ثابتة، تتطوَّر مفرداتها مع تقدّم الزمن، وتَتَبَدّل عناصرها، لكن الأطماع تستمرّ طالما أن المطامع لم تنضب. تَتَبَدَّد الأسماء، ويورِثُ المستعمِرون بعضهم بعضًا غَصبًا، بانتظار لحظة التحرُّر التي تضحى أكثر صعوبةً مع الوقت.
لتلك الأسباب، لم يهنأ السودان يومًا باستقرار داخلي، وجثا الطامعون على صدر “الدرّة السمراء” منذ زمن. تتالَت الانقلابات منذ العام 1958، وتداعَت مضامين الدولة الهَشّة بالأصل. عاش السودان أخيرًا على مدى أكثر من ربع قرن نزاعات داخلية وتقاتلًا دمويًّا شبه مستمر، واستمَرّ النَزيف في دولة “اللاءات الثلاثة” كرمى لعيون الغرب الطامِع بالمعادن والذهب، وقُسِّمَت عدّة مرات، كان آخرها عام 2011 حين انفَصَل جزءها الجنوبي في مؤامرة اعتياديّة قادتها أميركا حينها.
موقع السودان الاستراتيجي على خاصرة البحر الأحمر، وسط جغرافيا استراتيجيّة تعجّ بالصراعات بين دولها، جعل من السودان “كبش المحرقة” التي تنمو على حسابها رغبات جيرانه الخصوم، بإشراف مباشر من الولايات المتحدة الأميركية التي تدير الصراع تِبعًا لمصالحها وحمايةً لطموحاتها الخبيثة. أما “إسرائيل”، الكيان الاستيطاني المحتَلّ، فهي العنصر التنفيذي لتلك المشاريع، إضافة إلى النفوذ القوي التي تَتَمتّع به داخل السودان وفي عدة بلدان جارة. فتلك المساحة من الأرض تشكّل مخزنًا مليئًا بالكنوز التي تجتَذِب كيانًا طامعًا كـ”إسرائيل”.
أما عن المجموعتين اللتين تتناحران اليوم، أعني الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح #البرهان من جهة، وقوات الدعم السريع بقيادة #حميدتي من جهة أخرى، واللتين كانتا حليفتَين حتى الأمس القريب، فهما مُحتَضَنتان من قبل خليط دولي وإقليمي تقف على رأسه أميركا بالطبع. وقد رفعتا لواء التطبيع مع العدو الصهيوني من دون هوادة، لا بل لم تكفّا يومًا عن تقديم الضمانات للعدو بأن لا تُمَسّ مصالحه البتّة. وتاريخ الرجلَين، ماضيًا وحاضِرًا، مفعم بالمصالح الشخصية والسعي نحو السلطة والنفوذ، والسيطرة على الموارد الطبيعية، لو كلّفهما الأمر الانقلاب على أصدقاء الأمس القريب.
للأسف، تلك هي الصورة القاتمة اليوم في السودان، البلد العربي الذي يمتلك الكثير من النخب الثقافية والوطنية التي ترفض التطبيع وتنادي بالاستقلال.
هذا ما جنَتهُ على أممنا دول الهيمنة الغربية، بمساعدة العرب. ويبقى الأمل بالنجاة طالما هناك قضية مقاومة تكافح الاستعمار وتسعى نحو التحرّر من إرهاصاته. وكل يوم يقوى فيه محور المقاومة، سنكون أقرب من ذلك التحرّر المنشود.