يوتوبيا الغرب: ثقافة الاستهلاك نموذجًا

كل إنسان في هذه الحياة له أسبابه ومبرراته لكل طموحاته وآماله، فغالبًا ما تكون هذه الطموحات التي يسعى إليها هي وليدة رؤية شاملة للحياة هو يعتقد بها، أي رؤية كونية يفسّر بها الترابط الموجود بين حياته وحركة الكون والقيم التي لا بدّ أن تنبثق عن وجوده فيه.

من الجيد القول أنّ الإنسان هو كائن مثالي، دائمًا ما يخطط وينظّر للتطوير ويتوق لرفع مستوى الحياة، بأن يجعلها فاضلة أكثر، كريمة، سهلة، بغض النظر عن التصرفات العملية التي يخطوها، لأنّ الكلام هنا عن المفهوم، أما في مجال السعي فهناك من سعى وباشر في عمله على طريقته ثمّ فشل، وهناك من لم يحرّك ساكنًا، وهناك من سعى وحقّق نجاحات إلا أنّ نجاحه لم يدم طويلًا. ولذلك لم نلحظ المدن الفاضلة إلا في الكتابات الأفلاطونية أما ترجمتها على أرض الواقع فبقيت معضلة ولغزًا لم يحل إلى اليوم!

يجد الإنسان المعاصر اليوم في الغرب حل معضلته في تذليل العقبات الاقتصادية فقط، ويعتبرها “فردوسه المفقود”، فتراه ينظر إلى بلدان العالم من ناحية الدخل السنوي، وعدد الفقراء… حاصرًا فردوسه في جانب المادة فقط. فعلى جانب، من المهم النظر والسعي لخنق الفقر، وعلى جانب آخر، الأهم هو عدم حصر “الفردوس” فيه بل اشتماله على ما يقضي على أصل هذا الفقر.

وهنا لا بدّ من سؤال: لماذا سعى الغرب لترجيح النمو الاقتصادي على تنمية أخلاق مجتمعه؟ وهذا السؤال إنّما يعالج الأفق الفكري الذي بنى الغرب مناهجه وسياسته عليه.

يعتبر الاستهلاك أحد أهم أركان الاقتصاد الغربي، لأنّ الإنتاج مرتبط به، ولرفع هذا الاستهلاك ربّما يحتاج الأمر لدعاية ما، أو لفرض أمور لا ترضاها الفطرة والأخلاق والسلوك السويّ، فيروّج لمنتجٍ ما مثلًا عبر خلق شخصية خيالية ليس لها وجود، لا لإرساء مفاهيم أخلاقية بل لرفع قوّة اقتصاده الذي يراه غاية. بل ذهب البعض إلى خلق قصص أسطورية لتبرير هذه المنظومة وجعلها قيمية، ولتخلق من النظام الرأسمالي نظامًا مرغّبًا فيه، وهذا ما ظهر من خلال الأفلام السينمائية والإعلام الذي طالما خرج عن الموضوعية في طرحه للقضايا.

لقد ذهب الغرب في خدمة عقليته الاستهلاكية والتي هي الاستعمار الجديد والحديث، إلى تبرير الحروب فلسفيًا، وربطها دعائيًا بشخصيات كـ”جيمس بوند” و”رامبو” وغيرهما، حتى توجّه الرأي العام لديه وتخدم ما يصبو إليه، وهنا نتكلم عن حروب قائمة على خلفية استهلاكية صرفة أيضًا.

وعليه رأى الغرب مدينته الفاضلة في ثقافة الاستهلاك هذه، وذلك وفق ما تمليه عليه ثقافته وقيمه إن وجدت! فإذا كانت اليوتوبيا الأفلاطونية هدفها إقامة دولة الإنسان على الأرض، فما اليوتوبيا الغربية سوى إقامة دولة الوحوش على الأرض، إذ تسلّطت المادة على الروح، وأصبح الإنسان وسيلة الحكومات لتحقيق أهدافها، بدلًا من أن يكون العمل في سبيله.

من هنا يظهر لنا، عطفًا على السؤال الذي مرّ، “لماذا سعى الغرب لترجيح النمو الاقتصادي على تنمية أخلاق مجتمعه؟” أنّ المجتمع الغربي إنّما يسعى لرفع ثقافة الاستهلاك، فاتحًا سبل ذلك أمام كل من أراد خوض تجربة ذلك، مقوننًا ذلك بقالب “الحرية”… وهذا الترجيح إنما ناجم عن سيطرة رأس المال وتقديم الاقتصاد على غيره من مظاهر الحياة الإنسانية، الذي عدّه الغرب من مستلزمات تفسيره المادي للوجود، ومتوافقًا مع رؤيته الكونية.
ولكن يبقى السؤال: أيّ البعدين يستحقّ خدمة الآخر: الروح أم الجسد؟!

اساسي