لم تنتظر بكين طويلًا بعد مغادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعاصمة الصينية للرد على زيارة رئيسة تايوان تساي إنغ ون إلى عدد من بلدان أميركا اللاتينية، والتي قادتها لاحقًا إلى الولايات المتحدة حيث التقت مسؤولين أميركيين. وكمؤشر إلى عودة ملف الجزيرة إلى صدارة المواجهة السياسية والاقتصادية والعسكرية بين واشنطن وبكين، أعلنت وزارة الدفاع الصينية يوم السبت الماضي، بدء مناورات عسكرية في محيط الجزيرة ردًا على نشاطات من وصفتهم بـ “القوى الانفصالية” بدعم من دول خارجية.
التدريبات التي حملت اسم “السيف المشترك”، واستُخدمت فيها الذخائر الحيّة، حاكت في يومها الأول، اختبار قدرات الجيش الصيني على حصار الجزيرة، إضافة إلى السيطرة على المجالين البحري والجوي التابعيْن لتايبه، وتدفّق حركة المعلومات منها وإليها، بينما حاكت في اليومين الأخيرين من المناورات شن ضربات جوية، وصاروخية بعيدة المدى ضد “بنك أهداف” رئيسية، وحيوية داخل تايوان، ومياهها الإقليمية التي تقدّرها سلطات تايبه على مسافة تتراوح بين 12، و 24 ميلا من سواحلها.
وبصورة لا تخلو من دلالات حول التطور المتسارع لقدرات الجيش الصيني، والحضور العسكري المتنامي لبكين خارج الحدود، شاركت حاملة الطائرات الصينية “شاندونغ”، في الخامس من شهر نيسان/ أبريل الجاري، في تدريبات عسكرية مماثلة في مياه المحيط الهادئ، على مقربة من تايوان، التي تعدها الصين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. توقيت الخطوة العسكرية “النوعية”، المتمثلة في تنفيذ “شاندونغ” انتشارها العملاني الأول في تلك المنطقة، خارج نطاق عملها المعتاد في بحر الصين الجنوبي، وهو أحد نقاط الاشتباك بين بكين، من جهة، وواشنطن وحلفائها الآسيويين من جهة ثانية، جاء هادفًا بلا أدنى شك، كونه جاء قبيل ساعات قليلة من لقاء تساي، برئيس مجلس النواب الأميركي كيفن ماكارثي خلال جولتها الخارجية الأخيرة، على وقع اتساع حدة التباينات بين أكبر اقتصادين في العالم.
كذلك في المناورات التي جرت في التاسع من الشهر الجاري، تمركزت حاملة الطائرات الصينية نفسها، وهي واحدة من ثلاث حاملات طائرات تملكها بكين، على مسافة 200 ميل شرق الشواطئ التايوانية للمشاركة في تنفيذ محاكاة تطويق كامل للجزيرة من مختلف الجهات، من دون أن تغفل واشنطن، باعتبارها الحليفة الأمنية الأقرب لتايبه، وطوكيو، المولجة بدور عسكري رئيسي في حماية الجزيرة، عن متابعة خط سير “شاندونغ” ومهماتها غرب المحيط الهادئ.
وبحسب وزارة الدفاع اليابانية، فإن نطاق المهام العملانية لـ “شاندونغ” بين الخامس، والتاسع من الشهر الجاري، انحصر على مسافة تتراوح بين 125 و230 ميلًا من السواحل الجنوبية لجزيرة “مياكو” التابعة لليابان، وكذلك حول قناة باشي، التي تفصل تايوان عن الفلبين، أحد حلفاء واشنطن الإقليميين. ووفق بيانات الوزارة، فقد نفذت القوات الصينية أكثر من 100 طلعة جوية خلال الفترة المشار إليها، نحو 80 منها نفذته طائرات مقاتلة نفاثة بعضها من طراز “سوخوي-30” المتطورة روسية الصنع، و40 أخرى عبر طائرات مروحية، بعضها مزوّد بصواريخ مضادة للغواصات.
اللافت أن وتيرة اختراق الطائرات الصينية لمنطقة الدفاع الجوي للجزيرة، وما يُعرف بـ “خط الوسط”، وهو خط فاصل غير رسمي بين تايوان والبر الرئيسي للصين، تزايدت خلال الأشهر الماضية. كما أنه، ورغم اعلان انتهاء مناورات “السيف المشترك”، حافظت عدة سفن حربية صينية على مواقعها في خمس نقاط قبالة السواحل الشمالية الغربية والشرقية والجنوبية المحيطة بـ “جارتها اللدودة” في إطار توجه خفر السواحل الصيني مؤخرًا لتفتيش السفن المتوجهة إلى الجزيرة. وخلال الأيام القليلة المقبلة، يعتزم سلاح الجو الصيني فرض حظر جوي فوق بعض الأجزاء الشمالية الغربية لجارتهم.
وبحسب محللين، فإنه من الواضح أن بكين تريد البقاء على حالة تأهب هجومي على امتداد المضيق الفاصل بينها وبين “شقيقتها الصغرى”، وتكريس أمر واقع جديد بخطوات متلاحقة ومتسارعة تبدأ بتغيير خطوط الحدود الفاصلة بين “الصين الشعبية”، و”الصين الوطنية” (وهي حدود غير رسمية على أية حال)، وصولًا إلى فرض حصار شبه دائم على الجزيرة، كنوع من التأكيد على عدم تهاون القيادة الصينية من الآن فصاعدًا حيال هذا الملف، الذي يأخذ بعدًا قوميًا خالصًا داخل “الجمهورية الشعبية”.
هذا التشدّد، أكد عليه الرئيس الصيني شي جينبينغ أمس حين خاطب جنوده، خلال زيارة قام بها إلى قاعدة بحرية جنوب الصين، داعيًا إياهم إلى تعزيز تدريباتهم استعدادًا لما وصفه بـ “القتال الفعلي”. وبالفعل، بلغ مستوى التوتر بين الجانبين، قبل أيام قليلة، إلى حد وقوف 10 سفن حربية صينية في وجه 10 سفن حربية تايوانية في المضيق. هذه “المواجهة الناعمة” تم توثيقها بالصوت والصورة، حين حذّر البحارة التايوانيون، عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، نظراءهم الصينيين من مغبة استباحة المياه الإقليمية لبلادهم، فيما أنكر الصينيون وجود نطاق سيادي مائي لتايوان باعتبارها جزءًا من الصين.
من جهتها، كانت السفن العسكرية الأميركية، بخاصة حاملة الطائرات “يو إس إي نيميتز”، والقطع البحرية المرافقة لها، إضافة إلى سفن حربية يابانية، تتابع نشاطها المعتاد في بحري الصين الشرقي والجنوبي، لمتابعة نشاط الجيش الصيني عن كثب. وبعد يوم من إعلان بكين اختتام مناوراتها، شرعت واشنطن في إجراء مناورات عسكرية مشتركة مع الفلبين، في بحر الصين الجنوبي، هي الأكبر منذ 30 عامًا، وهي تدابير أدرجتها وزارة الدفاع الأميركية في سياق تأكيد حرية الملاحة الدولية في تلك المنطقة، والتزامها بحماية أمن حلفائها في آسيا والمحيط الهادئ.
وكما بات معلومًا، فقد عادت العلاقات الصينية- الأميركية إلى مستوياتها المعتادة من التوتر مؤخرًا، بعدما كشف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، عن “الحزب الجمهوري”، مايكل ماكول قبل أيام أنّ إرسال قوات أميركية إلى تايوان قد يكون أمرًا محتملًا إذا ما غزت الصين الجزيرة. بدوره، دعا “السيناتور الجمهوري” ليندسي غراهام، إلى تدريب المزيد من القوات التايوانية، ونشر المزيد من القوات الأميركية في آسيا، مضيفًا أن الصينيين يعدون العدة لحصار جارتهم الواقعة على حدود شواطئهم الجنوبية الشرقية. واعتبر غراهام، في حديث لقناة “فوكس نيوز” أن “سياسة الغموض الاستراتيجي” حيال الأزمة التايوانية التي تتبعها بلاده منذ عقود لم تعد تجدِ نفعًا، مبديًا حماسته للدفاع عن تايبه في وجه الصين، التي تصنّفها واشنطن “التهديد الاستراتيجي الأول”.
ولشرح دلالات التطورات في بحري الصين الشرقي والجنوبي، بالمقارنة مع المناورات الصينية صيف العام الماضي، يرى مدير “معهد الدفاع الوطني وأبحاث الأمن” في تايوان، سو تزو يون، أن قرار الولايات المتحدة بإبقاء قواتها البحرية، بخاصة حاملة الطائرات “نيميتز”، على مقربة من مسرح المناورات الصينية، خلافًا لما كان عليه الوضع خلال المناورات السابقة، حين أبقت قواتها بعيدًا عن تايوان، يعكس قناعة لدى واشنطن بأنه “وبصرف النظر عما تفعله تايوان أو الولايات المتحدة، فإن الصين قد حسمت أمرها بانتهاج سياسة التوسع ” في محيطها الإقليمي. ويشير يون إلى أنّ حاملة الطائرات الأميركية المذكورة تهدف إلى “استعرض قدراتها العسكرية (الردعية)، توازيًا مع إبقاء مضيق تايوان في مرمى طائراتها المقاتلة” كمؤشر دعم لتايبه ضد بكين. ويلمح يون إلى أنّ المناورات الأخيرة جاءت ضمن سقف سياسي، وعسكري أدنى، قياسًا بمناورات العام الماضي، مرجعًا السبب إلى نجاح الرئيس الصيني شي جين بينغ في التمديد له لولاية رئاسية جديدة، بصورة تجعله يرغب في تفادي إثارة أي نوع من القلاقل الاقتصادية أو الأزمات الدبلوماسية مع الخارج.