أطلق اتفاق بكين الأخير، بتوقيع الجانبين الإيراني والسعودي على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، العنان لتموضعات إقليمية غير مسبوقة. وبدا واضحًا، أنّ السعوديين يعيدون رسم علاقاتهم مع الإقليم، من بوابة إعادة العلاقات مع إيران، وتطبيع العلاقات مع سوريا، في وقت تتواتر الأنباء حول اختراق قريب على صعيد التوصل إلى “حل نهائي” للأزمة اليمنية، لا تتوقف مفاعيله عند إحياء بنود الهدنة بين صنعاء والتحالف، بل تتعداه إلى حوار سياسي يمني- يمني على طريق تثبيت “صيغة حكم تشاركية” للبلاد، تحتضن حركة “أنصار الله” ولا تقصيها. وكمؤشر على ذلك، جاء حديث الأمين العام لـ “مجلس التعاون الخليجي” جاسم البديوي، أمس، عن تبلور “ظروف مواتية” باتجاه حل سياسي في اليمن. ورغم التفاؤل الحذر بشأن قرب التوصل إلى اتفاق بين الرياض وصنعاء على هذا الصعيد، لا يبدو المشهد خاليًا من “منغّصات” ذات مصادر مختلفة، بعضها دولي كامن في دور أميركي بريطاني “تخريبي” سواء في كواليس المفاوضات، أو في تحركات عسكرية على الأرض، وبعضها الآخر إقليمي كامن في استمرار التباينات بين الأجندتين السعودية والإماراتية على أرض اليمن.
من هذا المنطلق، يشير محللون إلى استمرار الخلافات بين أبو ظبي والرياض حول مدخلات “التسوية المفترضة” في اليمن. فالإمارات بادرت منذ العام 2015 إلى توسعة نفوذها في ذلك البلد، على حساب السعودية، عبر دعم فصائل مسلحة يمنية، وفي طليعتها “المجلس الانتقالي الجنوبي”، بهدف التأسيس لوجود عسكري دائم لها في البلد الواقع على سواحل البحر الأحمر، وعلى مقربة من مضيق باب المندب الاستراتيجي. ومع إعلانها الانسحاب في العام 2019، تكثّف حجم الدعم للفصيل الجنوبي، الذي دخل في مناوشات عديدة مع الحكومة المدعومة من السعودية، قبل أن تنجح ضغوط الأخيرة في دفع الجانبين إلى التوقيع على اتفاق الرياض في العام نفسه، وهو اتفاق بقيت معظم بنوده، بخاصة الأمنية منها، حبرًا على ورق رغم ما تضمنته من إشراك لـ “الانتقالي” في المعادلتين السياسية والعسكرية في خارطة الحكم داخل اليمن.
ومنذ ذلك الوقت، وبعد جولات تفاوض عديدة، كانت غالبًا ما تأتي كحصيلة جولات عنف بين حلفاء أبو ظبي من جهة، وحلفاء الرياض من جهة أخرى، وصلت إلى حد تشكيل ما سُمي “مجلس القيادة الرئاسي” ليضم في عداده قيادات جنوبية، مدعومة إماراتيًا، بقي رئيس “المجلس الانتقالي الجنوبي” عيدروس الزبيدي مصرًا على إحكام سيطرته المطلقة على الجنوب اليمني، بمعزل عن رغبة الرياض، و”مجلس القيادة الرئاسي” حتى بات يسيطر حاليًا على عدن، ومعظم المدن الواقعة في جنوب اليمن، كجزء من أجندة انفصالية لا يخفيها. الشاهد على هذا الشقاق في صفوف “التحالف”، تجسّد في أكثر من مواجهة “ساخنة” خلال العام الماضي بين “الحليفين اللدودين” على أرض اليمن، لا سيما في المحافظات الجنوبية، حين نجحت قوات “الانتقالي” في إحكام سيطرتها على شبوة وأبين، وطرد القوات التابعة لسلطة رئيس “مجلس القيادة الرئاسي”، رشاد العليمي منهما، وهو ما أسهم عمليًا في توجيه ضربة قاصمة للأخير.
وكرد فعل على تحرك “الانتقالي”، المدعوم إماراتيًا بهدف ترسيخ “دولة الجنوب” عسكريًا، عكفت الرياض على تعزيز حضورها العسكري والسياسي في محافظة حضرموت الغنية بالنفط، وذات الأهمية الاستراتيجية البالغة للسعوديين، كونها تتشارك حدودًا مع المملكة تقدر بنحو 700 كيلومتر، إضافة إلى كونها المعقل الأخير التابع لسلطة العليمي في جنوب اليمن. وقد شملت الإجراءات السعودية لإبعاد خطر الانتقالي عن مناطق نفوذها في حضرموت، إعلان العليمي مطلع العام الجاري تشكيل ما أطلق عليه “قوات الدرع الوطني”، يبلغ تعدادها 8000 مقاتل، وذلك بتمويل سعودي، على أن تخضع حصرًا لسلطته المباشرة هناك.
الخطوة جاءت بعد زيارات عدة أجراها مسؤولون عسكريون سعوديون للوقوف على الوضع الميداني في حضرموت، وكذلك شبوة، تزامنًا مع استدعاء الرياض عددًا من القيادات العسكرية التابعة لسلطة “مجلس القيادة الرئاسي” في تلك المناطق بغرض تأنيبهم وإبلاغهم بقرار تنحيتهم من قبل العليمي، على خلفية الهزيمة التي تعرضوا لها أمام قوات “الانتقالي” قبل أشهر. وفي أحدث أعراض هذا الخلاف بين أبو ظبي والرياض، مارست السعودية ضغوطا لمنع عودة الزبيدي إلى عدن في أكثر من مناسبة. إلى ذلك، كشفت مصادر يمنية أن الأخير، إلى جانب زميله في “مجلس القيادة الرئاسي” عبد الرحمن المحرمي، وهما محسوبان على الإمارات، قد تغيب، ولأسباب قد تكون قسرية، عن حضور اجتماع لأعضاء المجلس مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أوائل شهر آذار/ مارس الماضي.
وعن آفاق المرحلة المقبلة، يرجّح محللون غربيون أن تعمد السعودية في وقت قريب، وبما تمتلكه من نفوذ على “مجلس القيادة الرئاسي” في اليمن، إلى حث المجلس على القبول بتسوية سياسية مع حركة “أنصار الله”، معتبرين أن المملكة تنطلق من مقاربة قائمة على أن حرب اليمن باتت تشكل “مصدر تشتّت بلا داعٍ” عن خطة التنمية الاقتصادية المدرجة ضمن ما يُعرف بـ “رؤية 2030”. وبحسب هؤلاء، فإن الحركة اليمنية بدورها، قد تعمد إلى القبول بـ “خفض التصعيد بصورة تكتيكية” كمرحلة أولية بعدما نجحت في إدارة حملة عسكرية وإعلامية ناجحة منذ بدء مواجهتها مع “التحالف” الذي تتزعمه الرياض في العام 2015، على طريق الحل السياسي الشامل. ومع ذلك، ثمة هواجس من إمكانية تجدّد جولات القتال بين القوى اليمنية، الموالية للسعودية، وتلك المحسوبة على الإمارات، بما يعرقل طي صفحة الحرب في اليمن. وفي هذا السياق، يشير “معهد دراسات الشرق الأوسط” للدراسات، إلى أنّ الخلاف بين السعوديين والإماراتيين أدى إلى تضعضع قوات الحلف المناهض لـ “أنصار الله” إلى حد كبير خلال الأشهر الأخيرة، وأسهم في تغذية التوترات بين أطرافه، على نحو ما شهدته مناطق عدة في جنوب اليمن، كحضرموت، وشبوة.
ويلفت المعهد إلى أنّ “الأمر الأكثر إثارة للقلق على الساحة اليمنية، هو أنّ السعوديين والإماراتيين باشروا مؤخرًا بعملية إعادة انتشار ميداني لوكلائهم (اليمنيين) على طول خطوط التماس والصراع التي كانت قائمة قبل عام 1990″، أي فترة تقسيم البلاد بين شمال وجنوب، مرجّحًا أن “تتصاعد التوترات السعودية- الإماراتية” في الفترة المقبلة، وخصوصًا في ظل الخلاف المتزايد حول النفوذ الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط عمومًا، وفي اليمن خصوصًا. وفي حين كشفت تقارير غربية، أن الإماراتيين بدأوا في بناء قاعدة جوية على جزيرة ميون اليمنية الاستراتيجية الواقعة في مضيق باب المندب، خلافًا لرغبة الرياض، فقد افتقر السعوديون، في المقابل، إلى هدف واضح خلال الحرب اليمنية وفشلوا في خلق حلفاء أقوياء لهم على الأرض. وبحسب المعهد، فقد استعاض السعوديون عن الجانب العسكري، بالتركيز بشكل أساسي على استغلال نفوذهم السياسي داخل اليمن لمحاولة توجيه مسار الأحداث في الجنوب، وهو نهج ثبت عدم فعاليته إلى حد كبير.
ويشير المعهد إلى بدء الرياض ببناء سياج بطول 900 كيلومتر لإغلاق حدودها مع اليمن، واضعًا إياها في سياق إجراءات احترازية تقوم بها السعودية تحسبًا للاحتمالات الأسوأ، المتمثلة بإمكانية وقوع فوضى على حدودها مع اليمن، في حال اضطرارها إلى وقف الحرب في ذلك البلد. ويشير إلى أنّ رغبة الرياض بإبرام اتفاق مع “أنصار الله” هو بمثابة نداء سعودي يائس لغسل يديها من جارها الجنوبي. ومع توالي فصول “الحرب بالوكالة” بين السعودية والإمارات، تباعًا على المسرح اليمني، من جهة، وعودة صنعاء إلى لغة التهديد والوعيد بين الفينة والأخيرة “يبدو من الصعب التنبؤ بما سيحدث بعد الآن” هناك، وفق المعهد.