الشغور الرئاسي الطويل ومهمّة الرئيس المقبلة

يَطفو مشهد الانسداد السياسي على الواقع اللبناني الراهن. لا رئيس جمهورية في الأفق، حكومة شبه معطَّلة ولا تمتلك موارد الحُكْم، احتقان مُجتَمَعي وشبه طائفي، تَصَلُّب في مواقف الشرائح المختلفة، الامتناع عن الحوار والتوافق، والكثير من المشاهد السَّوداويّة التي ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخ الجمهورية اللبنانية.

لم يخلُ تاريخ لبنان السياسي من الأزمات والعُقَد والانسِداد، لكن ما غاب الراعي الخارجي يومًا عن مشهد السياسة. إذ إن قيامة هذا الكيان بنسختِه الحديثة المُسَمّاة لبنان، قامت على صفقات عَقَدَتها دول غربية واقليمية أثناء صَوغ العالم الجديد مطلع القرن العشرين. وعليه فقد ارتبط لبنان بنيويًا بالأطراف التي كانت تُبَلوِر تلك الصياغة وتورد وظائف الدول التي على أساسها سيُستَحدَث نمط الحُكم السياسي ودرجات السيطرة على مفاصله الداخلية، إضافةً إلى مستوى الوصاية المطلوب لضمان أداء الوظيفة المَمنوحة. لبنان كان ضمن صلب تلك المعادلة، بلدًا تابعًا، مُفَصَّلًا تَفصيلًا دقيقًا على مقياس دول الاستعمار والسيطرة.

هناك خطأ نرتكبه عندما نُظَهِّر مشهد الأزمات اللبنانية على أنها أزمات داخلية يتَدَخَّل الخارج لحلّها. سوء الفهم بالواقع السياسي يقود البعض إلى التفكير بهذا المنطق، بينما في الحقيقة لا يمكن فصل الخارج عن الداخل بتاتًا في المسرح اللبناني. لطالما تَشَكَّلت العُقَد المتلاحقة منذ مائة عام من خلال صراع اقليمي يعزف بداخله دول الهَيمنة الغربية، وسابقًا كان يرافقها تلك الشرقية أيضًا. إذًا تأثَّر لبنان طيلة مسيرته بالمناخ السياسي الاقليمي، وكانت أزماته تمثّل تبعات للصراح الجيو سياسي في المنطقة، حيث يديره “المجتمع الدولي” عادةً، والذي اختُصِرَ بأميركا في العقود الأخيرة. ولطالما كان وجود “إسرائيل” المُنَشِّط الأساسي لهذا الصراع وأحد أبرز قواهُ المُتَحَكِّمة بالمشهد الاقليمي، نظَرًا لطبيعة المُخَطَّط المنشود من قبل الكيان للسيطرة على المنطقة.

ما نشهده من فراغ رئاسي اليوم ليس الأول، ولن يكون الأخير إذا بقيَت الصيغة الحُكْميّة على ما هي عليه. وليست الأزمة الأولى التي توصَد الأبواب أمام مسارات حلّها. ففي العام 1958 وصلت الأمور إلى حدّ نشوء حرب أهلية حقيقيّة، وكان الصراع السياسي محتدِمًا حينها بين الغرب ومصر جمال عبد الناصر، تَوَلَّدَت تبعات ذلك الصراع داخل الساحة اللبنانية، وانتهت بتسوية شاملة أتَت بفؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية.

وفي العام 1988، حين انتهى عهد الرئيس أمين الجميّل، كانت الحرب الأهلية مشتعلة أصلًا، ونشب نزاع على الحكم بعد تعيين حكومة عسكرية من قبل الرئيس قبل ساعات من انتهاء ولايته، برئاسة ميشال عون، وحكومة مدنية يرأسها سليم الحص. كلا الحكومتَين كانت تمثّل توجّهًا سياسيًا يختلف عن الآخر. انتهى المأزق نظريًا عام 1989 بعد “اتفاق الطائف” المشهور، وفعليًا في 13 تشرين أول من العام 1990 بعد تدخّل عسكري شاركت فيه دول إقليميّة وقوى داخلية أنهت رئاسة ميشال عون بالقوّة. أُنتِجَت التسوية بأيادٍ خارجية، دولية وإقليميّة. استقرّ الوضع السياسي بعدها برعاية سعودية سوريّة وإشراف مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركيّة، ومشاركة فعّالة من قبل الدولة الفرنسية، خصوصًا بعد تولّي رفيق الحريري السلطة التنفيذيّة عام 1992.

وفي الفراغ الذي تلا عهد إميل لحود، أخرج الخارج أرانبه أيضًا وأجلَس اللبنانيّين على طاولة التسوية في الدوحة عام 2008. وفي العام 2016 انتُخِب ميشال عون بتسوية خارجية ساهم فيها خليط واسع من الدول الغربية والاقليميّة.

اليوم، يبدو المشهد مُعقّدًا أكثر، ومتصلّبًا صرفًا لا يُتاح بداخله لأي مبادرة أو مناورة كما كانت تجري العادة. الانقسام السياسي على أشُدّه، وسقف الخطاب السياسي عالٍ جدًا. كلام التقسيم والفيدرالية يضجّ في الأجواء، وحديث التفرقة يتصَدَّر المشهد. أميركا لا تضع الأمر ضمن أولويّاتها كونها لا ترى في موقع رئيس الجمهورية تأثيرًا على قضيّتها الاساسية في المنطقة كَكُل، نواة القضية إسرائيل ومشروع التطبيع. السعودية ضاق بها ذرعًا سلوك السياسيين اللبنانيين الذين ينفذّون مشروعها، ولا تريد تخفيض السقف إلى ما دون مواجهة مشروع المقاومة والإيتاء برئيس يعادي حزب الله (بما يمثله) ويواجهه ويقيّده ويعزله. فرنسا لا تملك في يديها حيلة الحَل، وهي مُلزمة بالسقف الأميركي والسعودي نظرًا لطبيعة التركيبة اللبنانية ونفوذ الأخيرتَين داخل الحُكم. أما الأطراف الداخليون الذين يملكون قرارهم فيعرفون تمامًا أنه لا إمكانية لانتخاب رئيس من دون توافق. الوضع الاقتصادي منهار، ومعه الحالة الاجتماعية والثقافية والاعلامية.

أهمية ملء الشغور الرئاسي لا تكمن في مهمة الرئيس التنفيذيّة، بقدر ما هي مرتبطة بإعادة تكوين السلطة كباب رئيسي لترسيم سكّة الحَلّ والمباشرة بالنهوض المفتَرَض. أهميّة الرئيس تكمن بالوظيفة التي سَتُناط إليه في جَوف العالم الذي يتَغَيَّر بوتيرة مرتفعة، وبتَنصيب فاعلية الحركة التي يجب أن ترافق ذلك التبدّل الذي يجوب المشهد الدولي في كل جوانبه. ولأن للبنان نصيبًا في هذا الإقليم الفاعل والمؤثّر، فعلَيه أن يؤدّي دوره بحكمة ومقدرة وقوّة.

كافة الأطراف الخارجية والداخلية المتخاصمة داخل حلبة رئاسة الجمهورية تَعي جيدًا أهمية المهمة المنوطة بالرئيس المقبل في ظلّ العالم المتشكّل الذي سيرسم مصير البسيطة لمستقبل قد يطول. ورئاسة الجمهورية، كغيرها من مواقع السلطة في لبنان، تكمن أهميتها في الدور الذي يلعبه لبنان جيو-استراتيجيًا، أكان سياديًا أم منزوع السيادة ليس هناك فرق.

بناءً على ما سبق، ندرك جليًا أن العقدة اليوم لا تشبه العُقد التي سبقتها على مدى عشرات السنوات، وهذه “النوبة” قد تطول وتطول، ربما لتنتهي بصيغة حُكم جديدة لا تجد أرضية مناسبة لها حتى الآن. الخوف اليوم من الفوضى التي لا تحمد عقباها، والتي ستتخطّى نتائجها تغيير نظام من هنا وترتيب عقد اجتماعي جديد من هناك، إنما سيَتَعَمشَق سريعًا “أشقّاؤنا” المتربّصون، الغربيّون منهم والإقليميّون على الوضع المستجدّ لإبطال مفاعيل ما تبقّى من دولة لبنانية، وجعلها كيانًا خاليًا من دون مضمون، تُستَدرَج من خلالها المقاومة إلى عنف داخلي وتُنتَزَعُ بذلك نقطة القوة التي يستند إليها البلد. ولذلك لا مناصّ إلا بالحوار والتوافق والجلوس مع بعضنا البعض. لا مناص إلا بنبذ الفتنة والتخلي عن الخطاب الطائفي. ولا مناص إلا بالاقتناع أن هذا البلد لا يجب أن يحكمه الا اللبنانيون في ما بينهم، عندها فقط نجهّز الأرضية للنهوض وننهض.

اساسيلبنان