أسوأ ما يمكن التعامل معه هو الكيانات الناشزة، حيث لا توجد قوانين ناظمة أو أعراف حاكمة، لذا تكون المقاربات أشد تعقيدًا وأكثر حذرًا، وما يزيد الطين بلةً، هو أن يعيش الكيان الناشز الناتئ، دور الكيان الطبيعي، وهذا ما يحدث مع السلطة الفلسطينية، فهذا الكيان الناشز في تاريخ النضال الفلسطيني، بل وعن تاريخ كل الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال، يحاول الإيحاء في قضية استشهاد نزار بنات، بأنّه دولة مؤسسية ذات سيادة، وأنّه كيان ذو شخصية معنوية، ولديه من القوانين ما ينظم عمله، وهو ذو مرجعيات دستورية وقضائية، رغم أنّ الجميع يعرف أنّه كيان ناشز وبلا مرجعيات سوى دماغ محمود عباس. فالسلطة الفلسطينية كيان منبثق عن منظمة التحرير الفلسطينية، ومن المفترض القانوني أن تكون منظمة التحرير هي مرجعية السلطة، والتي تُعتبر حركة فتح أكبرها والممسكة بقرار المنظمة، لكن ما حدث هو أنّ السلطة تغوّلت على منظمة التحرير، وتغوّل دماغ عباس على الجميع، حيث هو رئيس السلطة ورئيس المنظمة ورئيس حركة فتح، وعليه فإنّ دماغ عباس هو تقاطع المرجعيات والمرجعية الوحيدة، وهو ودماغه وكل المرجعيات تحت الاحتلال.
وتحت الاحتلال تعبير مخفف عما قاله عباس نفسه، حيث قال” كلنا تحت بساطير الاحتلال”، وعليه فإنّ المقاربات شديدة التعقيد، حين تريد التعامل بتجرد مع عملية اغتيال نزار بنات، باعتبارها عملية تمت في إطار قانوني أو خارج عن القانون، وفي إطار كيان له طبيعته السيادية والقانونية والمعنوية المتعارف عليها دولياً؛ فقوانين دولة الاحتلال هي الحاكمة، حيث لا يمكن لقوانين السلطة الفلسطينية أو سلوكياتها القانونية، خصوصاً الأمنية منها، أن تتعارض مع قانون الاحتلال بل ومصالح الاحتلال، لذلك لا يمكن استبعاد القرار “الإسرائيلي” في اغتيال نزار بنات، والتنفيذ كان عبر الأداة الأمنية التي ابتدعتها أوسلو، وأكملت البدعة “سي آي إيه” عبر الجنرال دايتون، وهنا تصبح المقاربات القانونية والقضائية في إطار قوانين السلطة جزءًا من عبث مشهد السلطة ككل. وإذا كان الأمر هو نشوة سلطوية لسلطةٍ تعيش تحت بساطير الاحتلال حسب مرجعها الأعلى والأوحد، وبهدف أن تُخضع كل الشعب لبساطير الاحتلال، فإنّ الأمر يتعدى كونه جريمة ذات أبعاد جنائية، تتم مقاربتها داخل أروقة قضاء السلطة.
وهنا قد يعتبر البعض أنّ قتلة نزار بنات سيفلتون من العقاب بحكم أنّ الجلاد هو الحاكم، فيتوجه إلى القضاء الدولي ولجان التحقيق الدولية، كما تطالب عائلة بنات، وهذا قد يكون الفخ الذي نصبته قوات الاحتلال، حيث إنّ السلطة الفلسطينية تلوّح بالذهاب إلى المحاكم الدولية لملاحقة جرائم الاحتلال، وهو بالمناسبة تلويح عبثي وغير جاد، وتستخدمه السلطة لامتصاص النقمة الشعبية في الأوقات العصيبة تفاوضيًا أو عسكريًا، ولكن ذهاب العائلة إلى هذا المسار الدولي، وهو ما سترفضه السلطة، سيسحب حتى من جيبها ورقة التلويح للاحتلال بتلك الورقة، فلا يمكن لك كطرفٍ أن تقبل بولاية المحكمة الجنائية الدولية حين يتعلق الأمر بك كمدّعٍ، وهو ما وافقت عليه السلطة، ثم ترفض تلك الولاية حين تكون مُدّعىً عليه، فلا يجب على العائلة الدخول إلى هذا المسار، لأنّ الأمر لن يتوقف عند مجرد استرداد حق شخصي أو عائلي أو حتى وطني، بل سيتعداه إلى آثارٍ ذات أبعادٍ أوسع، تتصل بالصراع عموماً، خصوصاً أنّ لجان التحقيق الدولية لا تعمل على سبيل إحقاق الحقوق، وهي ليست تقنية بحتة، بل هي أدوات سياسية يتم استخدامها لمآرب أبعد ما تكون عن الحقيقة، وعليه فليس مستبعداً أن تكون جريمة اغتيال نزار بنات إحدى جرائم التنسيق الأمني، وعلى خلاف الخدمات الأمنية التي تقدمها أجهزة السلطة للاحتلال بشكل رسمي وعبر قنوات رسمية، فهناك اختراقات “إسرائيلية” لتلك الأجهزة على جميع المستويات الدنيا والعليا. حيث إنّ السلطة تلكأت في إجراء الانتخابات بحجة رفض الاحتلال للسماح بإجرائها في القدس، وهو تبرير لذر الرماد في العيون، والحقيقة أنّها تتهرب من إجراء الانتخابات لأنّها على يقين من فشلها في الحصول على ما يكفي للبقاء في السلطة، وهذا يأخذنا إلى اعتبار أنّ متخذ القرار في اغتيال نزار بنات بافتراض أنّه قرار سلطة بحت، فهو من أغبى القرارات التي تم اتخاذها على مدار تاريخ السلطة، فإن كان لها بعض شعبية في وسطٍ مؤدلج، فالنقمة على هذه الجريمة قد أفقدتها أدنى شعبية، والأسوأ من ذلك، أنّ هذه الجريمة دخلت في بازار الصراع على السلطة لا الصراع الأصيل مع الاحتلال، وهو صراع سلطوي لخدمة الاحتلال، فالكيان كله ناشز والصراع فيه وعليه باطل، ولا يؤدي إلّا لخدمة الاحتلال، ولكن السلطة تتلطى خلف سيمفونية أنّ الاحتلال يريد رأس السلطة، على اعتبار أنّ الاحتجاجات الشعبية على اغتيال نزار بنات ستؤدي إلى عرقلة المشروع الوطني للسلطة، وهو مشروع التفاوض الأبدي، وخدمة الاقتصاد “الإسرائيلي” والأمن”الإسرائيلي”، مقابل انتفاخ جيوب المنتفعين وعلى رأسهم عباس، حيث أصبحت السلطة بشكلها الحالي هي الغاية.
لذلك من المؤسف قول ذلك، ولكن الحقيقة أنّ جريمة قتل نزار بنات ستمر بلا عقاب، حيث دخل دمه بازار الصراع على السلطة، وفي هذه الحالة تكون الأطراف المتصارعة أكثر تطرفاً في الدفاع عن بقائها بغض النظر عن العواقب، فكيف إذا كان هذا الصراع يدور تحت احتلالٍ متربص، هو عدو الجميع حتى لو ظن بعض هذا الجميع أنّه صديق، خصوصاً إذا افترضنا أنّ القتل تم بإيعاز”إسرائيلي” فلن تسمح “إسرائيل” بتوقيع العقاب على القتلة بقانون السلطة، وإذا كانت السلطة، فلن تسمح بما تظنه كسراً لهيبتها برضوخها لمبدأ معاقبة القاتل الحقيقي، والذي يتحمل عباس بشخصه وصفته مسؤوليته بحكم صلاحياته ومناصبه، فهو المرجعية العليا لكل الأجهزة والمؤسسات، وعن كل جرائم القتل تحت التعذيب المعتادة في أقبية الأجهزة الأمنية للسلطة، لذلك فالعقوبة الحقيقية يجب أن تكون إزالة السلطة، وهي العقوبة المستحقة لكلا القاتلين السلطة والاحتلال معاً، وأما القضاء والمزايدات التنظيمية وبازار الصراع على سلطة تستمرئ العيش تحت بساطير الاحتلال، فلا تصلح لأن يكون ثمناً للدم.