المجتمع هو عبارة عن رزمة إرادات تتعالى وتتسافل وفق الرؤى التي يضعها الإنسان بين عينيه، تترنح بين التركيز على الحاجات الضرورية وبين الأشياء السامية في حركة بندولية نصف قطرية، قد تتسارع حركتها وقد تتباطأ في أحد الهدفين أو تتوسطهما.
دائمًا ما كان المجتمع كذلك وإن حاول الكثير من المفكرين أن يمعيروه ضمن تصورات يرونها الأفضل، ليتحولوا إلى مفكرين برامجيين أو مهندسين اجتماعيين، لا يعنيهم ما يرونه بقدر ما يعنيهم ما يبصرونه محاولين تأويل كل انزياح أو انحراف إلى أجندة خفية وصراع قوى، مسقطين لازمة العلاقات الدولية على الجسم الاجتماعي الجواني. والمشكلة الأساس هو أن هذا الإبصار المترفع عن الواقع بما هو هو، يتحول إلى ابيستمي به تقرأ الأمور غفلًا عن صحة المدخلات المعرفية المعتمدة، فيتحول المجتمع معرفيًّا إلى صنف من الأطباق محملة بأحكام قيمة مسبقة للانتصار في ” حرب الأفكار ” دون كثير اهتمام إلى حقيقة هذا المجتمع.
واقعًا دائمًا ما كان الأمر كذلك انطلاقًا من الماركسية إلى الرأسمالية إلى النيوليبرالية إلى الطروحات الإسلامية، دائمًا ما تم التعاطي مع هذا الوجود الحقيقي ألا وهو المجتمع على أنه منتوج إديولوجي بحت، يتم صرف القناعات فيه وكلما قامت حقيقة ناقضة للفكرة تم تأويلها أو تصحيفها بخطابة إديولوجية تخدم الغرض الأنوي لا غرض الحقيقة.
إنها حقيقة شبه عالمية توافقت عليها كبار الأنساق المعرفية التي ابتكرت نزولًا من عصر الأنوار إلى تاريخ يومه، كما لو أنها قواعد لعبة لفك الطلاسم والألغاز للحفاظ على الأبنية المزينة قائمة ولو في مستنقعات منتنة.
وحده “المثقف المقاوم” يمكنه كسر هذه الرتابة وهدم أفكار كهنة المعابد، لأنه موجود مماهٍ لمجتمعه كاسر للمباني الفكرية المرتفعة عن الواقع، لا تعنيه صلابتها المنطقية ولا متانتها الاستدلالية كما لا تعنيه موسيقاها وأثرها الاسترخائي على الذهن.
فالمثقف المقاوم إنما ولد ليكون عكس التيار الوجودي العام رائيًا إلى نهايته، لا يؤرق السلطة ويكشف ألاعيبها (ميشيل فوكو) وحسب ولا حاملًا لوعي التاريخ (جون بول سارتر) ولا متماهيًا مع الغلبة الوجودية (ريمون آرون) ولا نضاليًّا يسطر البلاغات والمواقف (جوليان بيندا)، بل هو محرار سلامة المجتمع من الأكاذيب المتلونة بكل الألوان؛ قد يكون أقرب إلى المثقف العضوي (أنطونيو غرامشي) محبًّا للاشتباك، لكن مقاومته قائمة من تملكه لـ “حجاب من الجهل” غير ملتفت لوضعه الاجتماعي ولا إلى مكنزه من الثروات المادية والمعنوية، بل هو مقاوم محض لما يراه هادمًا لسواء المجتمع بما هو عيش مشترك بما هو سلام دائم بما هو سير للكمال والنهاية.
والمعضلة الأساس ترتفع عندما نعلم بأن “حجاب الجهل” الذي وضعه الفيلسوف جون راولز كإوالية لترسيم العدالة في المجتمع، هو مجرد معطى “ميتافيزيقي” لا انعكاس واقعي له، مما يؤدي إلى أزمة الشرطية لبناء ” المقاومة” المحض وعلى أي أرض تتحرك فعلًا، فلا أحد خلو من مسبقات معرفية تولدت نتيجة العيش في مجتمع ما.
ولهذا بالضبط نرى “اللافتات الإديولوجية” تتناسل و”مصاديقها” تقل، ولو أن المرء أغمض عينيه ولم ينتبه للقائل، لوجد تطابقا ابيستميا بين مجمل اللافتات، الحمولة الليبرالية حاضرة ومتمكنة حتى داخل الخطاب الديني في سقفه الشرعي والعرفاني، ولا ضرورة للذهاب بعيدًا إذ نجدها حتى على مستوى “التقييمات” و”التقديرات” متطابقة، وحدها اللافتة تشكل فارقًا وفيصلًا لرسم الاصطفافات الاجتماعية والسياسية، لكن العمق واحد والوجهة واحدة والتحالفات تظل ممكنة.
إلا أن المقاومة مطلق المقاومة تلعب دور الهادي الرئيسي، محصنة من المغالطات الموضعية وموقظة من وهم الإمساك بالحقيقة، كما لو أنها صوت متعالٍ يصرخ في وجه المثقف “أنت لا زلت في البداية ثابر لا تنظر إلى المنبطحين من كل الفئات ركز على أقصى الوجود الإنساني واستمر لا تتعب وإن تهالكت جوارحك فالعقل محرك من لا حراك له”، ليكون المثقف المقاوم عنوان “أقصى الوجود الإنساني” ماسكًا ليس وحسب بوعي التاريخ بل بوعي الخلق الأساس، لا تتحكم في تصديقاته الإرادات السياسية وإن تسامت أو المحك الاقتصادي وإن ران على المجتمعات، يشتغل على إراءة كبرى متجاوزة لتفاصيل الزمن السياسي أو الاقتصادي، بعيدًا عن التحالفات وأحكامها والعداءات ومترتباتها، فالمثقف المقاوم كائن معرفي وإن وجد في العالم إلا أن مطمحه أقصى الوجود الإنساني، ثورته لا تهدأ ولا تلين.
فما هي الديناميات المعرفية المقاومة؟ المقاومة ليست حسًّا ولا حدسًا ولا ذائقة تخالج النفس، بل هي تشخيص معرفي ينطلق من إواليات معرفية أساسية كبرى، هاته الإواليات هي رأس المسألة في الموضوع.
الإوالية الأولى، أن القانون الدولي ليس عنوانًا حقوقيًّا بل استمرارا غير مضمر للحدث الكولونيالي، فتتقوم القراءة المقاومة على الأصل الحقوقي فوق رؤية القانون الدولي. صحيح أن ثمة معضلة ممارسة تنجر في المجهود المعرفي، لكنها إوالية ضرورية تسمح للمثقف المقاوم بأن يبني قراءة أكثر صلابة من التسالم الأهلي الدولي، لذلك المثقف المقاوم لا يثقل كاهله المعرفي والإرائي بالخطابة القانونية الدولية لأنه يعيش “التبعية الأساس” من حيث يدعي “الحرية الأساس”.
الإوالية الثانية، أن المجتمع على حقيقته تحول إلى تصورات بين أيدي الإيديولوجيين، ويتم التعاطي معه على هذا الأساس، فالمجتمع حقيقة واحدة ينطق بها الكثرة، ومن هنا إن المثقف المقاوم لا ينطلق من “الرزمة النظرية السوسيولوجية” التي تقارب المجتمع، بقدر ما يقترب أكثر من “الإثنولوجيا والأنتربولوجية” لأنها كاشفة عن حقيقة المجتمع، وعلى ضوئها يمكنه أن يضع التصور الأكثر صائبية.
الإوالية الثالثة، بعد معاينة أن المنتج القانوني الوطني إنما هو خلاصة مجهود معرفي رأسمالي، الغرض من وضعانيته تدجين الإنسان / المواطن وتوضيب سلوكه بما يخدم “التراكم الأولي”، فعليه أن يرسم معالم العدالة الاجتماعية بعيدًا عن البنى الفكرية الحاكمة والاقتراب أكثر من البنية العقلية الأساس.
الإوالية الرابعة، أن الاقتصاد مهما تعالى يظل فنًّا وطروحات كبار المنظرين وإن تقومت على إحصاءات إلا أنها تستجيب لإرادات سياسية أو رغبات سياسية، ليضحي من المهم حقيقة مقاربة الاقتصاد بشكل تشخيصي يتوافق مع الدائرة الاجتماعية دون إلقاء بال للرافعة السياسية، وعلى ضوئها يمكن بناء قراءة مقاومة.
هذه الإواليات الأربع تظل محورية لأنها تسمح بالتعاطي مع الموجودات المعرفية بحرية أكبر، دون التفكير تحت هذه الأسقف والتي تمثل أسقفًا إيديولوجية ليبرالية، من هنا يبدأ “المثقف المقاوم” وإلا فإنه “مسخ مقاومة”.