ألقى الانهيار الاقتصادي بظلاله الكارثية على المجتمع اللبناني، وفتك ببنيان الدولة المتهالك أساسًا، واقتصاد البلد الذي طالما أوهم زعماؤه الشعبَ أنه وعُملته “بخير”.
استيقظ اللبنانيون يومها على وقع الانهيار المدوّي، الذي حول البلاد بين ليلة وضحاها إلى خراب منكشف بعد أن كان مستترًا، ودمّر معه ما كان متوفرًا من مقومات الحياة، موجهًا بذلك ضربات موجعة لطبقاته الاجتماعية، وضربةً قاضية إلى “الطبقة الاجتماعية الوسطى” التي كان يتغنى لبنان يومًا، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، بوجودها.
الطبقة الوسطى: محرك الاقتصاد اللبناني
لطالما شكلت الطبقة الوسطى في لبنان، وعبر تاريخه، أساسًا متينًا للاقتصاد الوطني، لأنها- وفقًا للخبراء والأكاديميين الاقتصاديين – “أساس الحيوية في الاقتصاد، على المستوى الثقافي والتعليمي والسكن والاستهلاك، إضافةً إلى أنّها تنخرط في العمل السياسي وتُغذّيه، في مقابل طبقة غنية مُتحالفة مع قوى السلطة”، كما أنها “الركن الأهمّ في النموّ الاقتصادي، وكلّما كانت دائرتها واسعة شاملةً عددًا كبيرًا من الأفراد، ارتفع الإنتاج والطلب على الاستهلاك واختلفت نوعية الحياة”.
قبل انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، كان يُدرج ضمن الطبقة الوُسطى “الأسرة التي تملك دخلًا يراوح بين 2500 دولار و7000 دولار، بمعدّل وجود 1.6 ناشط داخلها”، ومع حدوث الأزمة الاقتصادية التي طالت تقريبًا كافة أصحاب المهن والموظفين المصنفين ضمن الطبقة الوسطى، تبدل الواقع تمامًا، لا سيما لدى من يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، ولدى أصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتي أقفل الكثير منها أبوابه، مما رفع معدل البطالة بشكل كبير وأثر بالتالي على الواقع الاقتصادي ككل.
تشير الإحصاءات الصادرة في هذا المجال، إلى أن نسبة الطبقة الوسطى في لبنان كانت تشكل أكثر من 50 % من نسبة السكان المقيمين في لبنان بينما تقلصت الى حدود الـ 25% في العام المنصرم، بالتزامن مع الارتفاع الجنوني لمعدل التضخم المالي العام والذي تخطى حدود الـ 800 % منذ بداية الازمة.
بالإضافة إلى ما ذكر، إن تقلص حجم الطبقة الوسطى، يعني ارتفاعًا كبيرًا في معدل الفقر، والذي تخطى فعليًا حدود الـ 60 % من نسبة السكان اللبنانيين المقيمين في البلد، الأمر الذي ينذر فعليًا بكارثة حقيقية، ظهرت معالمها منذ الفترات الأولى للأزمة.
من ينقذ الطبقة الوسطى من الانكماش الساحق؟
لطالما كانت الحلول المقترحة لإعادة هيكلة الطبقة الوسطى ممكنة إلى حد كبير في ظل اقتصاد جيد وظروف سياسية مستقرة نسبيًا، أما في ظل ما نشهده اليوم من انهيار اقتصادي وتقاتل سياسي، فالأمر يبدو فعليًا في غاية التعقيد والصعوبة، إلا أنه، ورغم ذلك، غير مستحيل.
وبالعودة إلى حجم الانهيار الاقتصادي الذي شهده لبنان، ونظرًا لارتباط تقلّص الطبقة الوسطى به، بحكم أنها أحد أبرز تداعياته، فإن تعافي هذه الطبقة يكون بالحد من هذا الانهيار، وبوجود خطة تعافٍ شاملة لكافة القطاعات الاقتصادية في البلد.
وبالإضافة إلى ذلك، إن العلاقة الفعلية ما بين الاقتصاد العام للبلاد ككل، والطبقة الوسطى فيها هي علاقة تكاملية، إذ إن تعافي أي منهما مرتبط بتعافي الجزء الآخر، وهنا تكمن أهمية أن تعير الحكومة الحالية (حكومة تصريف الأعمال) أو أي حكومة مستقبلية، أهمية بالغة لإعادة إحياء هذه الطبقة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، وبالتالي فإن خطة إعادة إنعاشه لا بد من أن تتضمن بشكل أساسي إعادة إنعاش هذه الطبقة الفاعلة والمنتجة.
وهنا وقبل كل شيء، تقع المسؤولية على عاتق الدولة ودورها في إعادة تفعيل القطاعات المنتجة في البلد من زراعة وصناعة وخدمات وغيرها، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتقديم الحوافز ووضع سياسات ضريبية عادلة ومشجعة لا خانقة، فضلًا عن مراقبة الأسعار وتشجيع المنافسة منعًا للاحتكار الحاصل، وتخفيف الهوة ما بين مؤشر الأسعار ومؤشر الأجور، وغيرها من السياسات التي قد تؤدي مجتمعةً إلى النهوض مجددًا بما تبقى من وطن.
وأخيرًا، تبقى دعوانا، كشعب أنهكته الأزمات والانهيارات، أن تزول هذه الطبقة السياسية الفاسدة، وأن يمحى أثرها، لأن لا أمل ولا نهوض ولا إعمار لاقتصاد هذا البلد في ظل وجودها، وإن كان ما زال اليوم للطبقة الوسطى وجود ضئيل في كيان المجتمع اللبناني، فإنه مع وجود مثل هكذا سلطة سيتحول الشعب بأكمله قريبًا، باستثناء الطبقة الفاحشة الثراء فيه والتي ينتمي لها حكامه، إلى شعب واقع تحت خط الفقر والعوز واليأس.