وسط تباينات خفية ومعلنة بين واشنطن، وبرلين، حط المستشار الألماني أولاف شولتس في العاصمة الأميركية. سريعًا، ربطت الصحف الأميركية بين الزيارة، وبين وجود مسعى ألماني حقيقي وجاد لإعادة البحث في سبل وقف التدهور الحاصل في أوكرانيا، على وقع تردي الوضعين الاقتصادي والمعيشي للبلدان الأوروبية بسبب منذ بدء الحرب مطلع العام 2022، والخشية من إمكانية تحول أوروبا إلى مسرح مواجهة كبرى بين الولايات المتحدة، وروسيا.
فموسكو، التي رفعت خلال الأسابيع القليلة الماضية، من مستوى تحذيراتها للقادة الغربيين من مغبة إرسال المزيد من الأسلحة إلى كييف، باتت تلوّح باستمرار بإمكانية ركونها إلى “قوتها النووية” إذا اقتضت الحاجة للدفاع عما تعتبره أراضيها، تحديدًا القرم والأقاليم الأوكرانية الأربعة بعد انضمامها رسميًا إلى روسيا.
الولايات المتحدة، بدورها، وبهدف توجيه رسائل تصعيد في أكثر من اتجاه، أحدها باتجاه موسكو، والآخر باتجاه العواصم الغربية، لا سيما تلك التي تشهد ارتفاع مستويات المعارضة الرسمية والشعبية حيال حرب أوكرانيا، كألمانيا، كانت قد استبقت زيارة شولتس بإعلان عزمها تقديم حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، بما في ذلك صواريخ لراجمات “هيمارس”، التي يبلغ مداها 80 كيلومترًا، وصواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، التي لعبت دورًا كبيرًا في صد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وكمؤشر على حجم التناقضات التي تكتنف سياسات وسلوك القادة الأوروبيين، أقر المستشار الألماني أولاف شولتس، قبل أيام بأن تلك الحرب لا تحظى بشعبية داخل بلاده، متعهدًا بالمضي في دعم كييف، رغم ذلك.
حتى الآن، يجد الأوروبيون أنفسهم، بمن فيهم الألمان، قد دُفعوا دفعًا نحو حرب لا يملكون أمر إيقافها وحسمها لهزيمة روسيا، وكذلك ليس باستطاعتهم السكوت عنها والاكتفاء بمشاهدة أوكرانيا وهي تُسحق عبر الآلة العسكرية الروسية. وهم، مما لا شك فيه، حين انجروا إلى جوقة العقوبات ضد موسكو، بضغوط تحكمها حسابات داخلية ضيقة متصلة بـ “الروسوفوبيا” التقليدية في أوساط تيارات سياسية وشعبية وازنة في أوروبا تغذي العداء تجاه روسيا، وحسابات أخرى خارجية، مرتبطة بضغوط أميركية مباشرة، أصبحوا يعانون الأمرّين بين سلام صعب تتضاءل آماله مع روسيا يومًا بعد يوم على المدى القصير، وبين حرب تبدو طريقها الطويلة على الساحة الأوكرانية مكلفة ومرهقة على المدى الطويل.
وفي هذا الصدد، تتلاقح الرغبة الأميركية في تأجيج التصعيد بين موسكو وكييف، مع طموحات الأخيرة الباحثة عن “نصر عسكري مستحيل” بعضلات الغرب وأسلحته. فالقيادة الأوكرانية لا تكاد تتوقف عن مطالبة حلفائها الغربيين، بمواصلة مدها بالأسلحة مستغلة ضعف الموقف العسكري الأوروبي في وجه موسكو، وحماسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لمواصلة الحرب. ووفق إحدى الإحصاءات، فقد بلغت المساعدات العسكرية لأوكرانيا التي قدمتها إدارة بايدن منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة مطلع العام 2022 نحو 30 مليار دولار.
في هذا الصدد، اختصرت صحيفة “نيويورك تايمز” أهداف الولايات المتحدة من مواصلة الحرب في أوكرانيا، بثلاثة أهداف أساسية، وهي تقليل قدرة روسيا على شن عملية عسكرية مشابهة لحرب أوكرانيا في دول أخرى، إضافة إلى توظيف مناخ الحرب لتعزيز الوحدة السياسية بين دول حلف “الناتو” استعدادًا لمواجهة مستقبلية متوقعة مع بكين. بالتأكيد لا يخلو الموقف الأميركي المتحمّس للحرب، من حسابات اقتصادية المترتبة عن الحرب، وأبرزها إجبار الأوروبيين بشكل أو بآخر على شراء الغاز الأميركي، بعد تخليهم عن الغاز الروسي، الذي يعد أقل كلفة.
الثابت، أنّ واشنطن تصر راهنًا، وتحديدًا بعد رفضها المبادرة الصينية للسلام في أوكرانيا مؤخرًا، على توريط الأوروبيين في المزيد من النفقات لدعم جهود الحرب الدائرة على حدودهم الشرقية، بهدف ما تسميه “تعزيز الوحدة الغربية” ضد روسيا، من جهة، وضمان استمرار استنزاف روسيا اقتصادياً وعسكريًا دون تكبّد عناء المواجهة العسكرية المباشرة معها، من جهة ثانية.