ستّار محمودي* – خاص الناشر
ثلاثون عامًا، وسيغدو الشرّق الأوسط غير صالح للسّكن، وفقًا لتقريرٍ نشرته «وكالة ناسا» مؤخرًا استنادًا إلى نماذجها الخّاصة بالتّنبؤ بالطّقس. فتسارُع المُعدّل الحاليّ للاحترار العالميّ، والجفاف في الشّرق الأوسط غير مسبوقين منذ تسعمئة عامٍ مضت. وإن استمر هذا الحال، فسيُخلَى سكّان العديد من دول المنطقة بحلول عام 2050. في تجاهلٍ تامٍ لهذا الوضعِ الحرج، تسعى الحكومة التّركيّة مرّة أُخرى إلى إحياء الإمبراطوريّة العُثمانيّة في المنطقة بخطط بناء السّدود الضّخمة. وبأفكارها العثمانيّة الجديدة في الهيمنة، ونهجها الواقعيّ الهجوميّ، تعمل الحكومة التركيّة الحاليّة لقطع تدفّق المياه من الأنهار العابرة للحدود (دجلة والفرات)، ببطء وثبات، إلى دول المَصبّ مثل #العراق و #سوريا . ونتيجة لذلك، استُنفِدَت موارد المياه في هذين البلدين، وتضرّرت زراعتهما بشدّة. وببساطة، يمكن أن يتحوّل نقص المياه إلى مصدرٍ جديدٍ للاضطرابِ والحربِ في المنطقة، وسيُعاد سيناريو تدفّق اللّاجئين إلى أوروبا من جديد. أضف إلى ذلك، التّوتّرات المُتزايدة الّتي ستُدمّر الاستقرار والأمن اللّذين تحتاجهما الولايات المُتّحدة في الشّرق الأوسط للتّركيز على الصّين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
مع تولّي «حزب العدالة والتّنمية» زِمام السّلطة، غيّرت تركيا سياساتها الدّاخليّة والخارجيّة، وشهدت طفرةً اقتصاديّةً من خلال ممارسة نظريّة «العُمق الاستراتيجيّ» لوزير الخارجيّة ورئيس الوزراء السّابق “أحمد داود أوغلو”. وبمرور الوقت، اكتسب #اردوغان المزيد من القوّة في الحزب، واستبدل «العُمق الاستراتيجيّ» بعثمانيّته الجديدة. تُعتبر سياسات “أردوغان” المُزعزِعةِ للاستقرار في القوقاز وسوريا وليبيا واليونان أمثلة على نهج الواقعيّة الهجوميّة التي أثّرت سلبًا على صورة تركيا في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، لم يتخلّ “أردوغان” عن سياساته فحسب، بل اعتمد خططًا أكثر خطورةً لبناء السّدود على منابع نهري دجلة والفرات. عبر مشروع «GAP»، تُخطّط تركيا لبناء 22 سدًا (أُنهي 19 منها)، و19 محطّة لتوليد الطّاقة، و19 مشروعًا للرّي على مساحة تزيد عن 1.7 مليون هكتار، وإضافةِ 5.5 جيجاوات إلى طاقةِ الكهرباء في البلاد. ومنعت هذه السّدود تدفّق المياه إلى البُلدان المجاورة. على سبيل المثال، أدّى سدّ «إليسو» إلى خفض حجم المياه التي تدخل العراق عبر نهر دجلة من 21 مليار متر مكعّب إلى 10 مليارات متر مكعّب. نتيجة لذلك، يُواجه 700 ألف هكتار من الأراضي الزّراعيّة العراقيّة نقصًا حادًا في المياه. كما أدّى ضعفُ تدفّق المياه في نهر الفرات إلى انخفاض منسوب المياه في شطّ العرب، وجفاف أجزاءٍ من أهوار الحويزة. كما انخفض إنتاج القمح في محافظة نينوى، أحد مراكز إنتاج القمح في العراق، من نحو 927 ألف طن عام 2020 إلى 89 ألف طن عام 2021 بسبب الجفاف. وفقًا لتقرير المُنظّمة الدّوليّة للهجرة، فإنّ 447 عائلة في هذه المحافظة، كانت قد عادت إلى ديارها بعد هزيمة داعش، هاجرت مرّة أخرى بسبب نقص المياه الحادّ. يزداد الوضع سوءًا في الأجزاء الجنوبيّة من العراق، فكما أفاد «برنامج الأمم المُتّحدة للبيئة»، فإن 61 ألف هكتار من الأراضي الصّالحة للزّراعة تخسرها العراق كل عامٍ بسبب نقص المياه المُتدفّقة، كما يفقد آلاف المزارعين مصدر دخلهم. ورغم أنّ تركيا تدّعي أنّ هذه المشاريع تهدف إلى توفير الكهرباء والمياه للسّكان، إلّا أنّ الغرض من هذه السّدود يتجاوز القضايا الزراعيّة، ويبدو أنّ الدّافع الخفيّ لـ “أردوغان” هو استعادة حدود الإمبراطوريّة العثمانيّة في دول مثل العراق وسوريا.
قد يكون للجفاف الناجم عن سدود #تركيا عواقب بعيدة المدى على الشّرق الأوسط، وحتى العالم بأسره. فنظرًا لارتفاع درجات الحرارة في الشّرق الأوسط، ومشاريع السّدود المُقلِقة في تركيا، ستتضرّر الصّناعة الزّراعيّة بشدّة، وسيتباطأ النّمو الاقتصادي بشكل عام، وبالتالي، سيهاجر عدد كبير من السّكان إلى المُدن الكُبرى بحثًا عن الوظائف وتأمينًا للمأوى. وبسبب نقص الموارد الكافية في المُدن الكُبرى، وعدم وجود التّخطيط المُناسب لتطوير البنية التّحتيّة، فإن سرعة الاستياء العام ستتسارع، وسينجذب معظم المهاجرين ذوي الأجور المُنخفضة إلى الميليشيات والجماعات المُتمرّدة. في المُحصّلة؛ الجماعات العنيفة والإرهابيّة، مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة، ستُعيد بناء نفسها بسرعة وتتولى السّلطة في مُدن مختلفة. وفوق كل ذلك، قد تندلع الحروب الأهليّة بين الحكومات المركزيّة وهذه الجماعات الإرهابيّة، ويتدفّق اللّاجئون عبر الحدود الأوروبيّة من جديد.
الحرب الأهليّة السّوريّة مثال على الكارثة التي ستحدث في السنوات القادمة بسبب الجفاف والسّيطرة التّركيّة على موارد المياه في الشّرق الأوسط. في سوريا، تسبّبت سلسلة من العوامل، التي كانت القوّة الدّافعة وراء الثّورات المعروفة باسم «الرّبيع العربي»، في اندلاع الحرب الأهليّة. أدّت هذه الحرب في النهاية إلى فرار أكثر من 2.5 مليون شخص إلى أوروبا، توفيّ بعضهم في طريقهم إلى هناك. ولن تُمحى من ذاكرتنا صورة الطّفل السّوري «أيلان»، والتي عُدّت رمزًا لألم ومعاناة اللّاجئين في طريقهم إلى أوروبا. وإضافةً إلى كل هذا الأسى والألم، كان لوصول هذا العدد من اللّاجئين في تلك الفترة عواقب اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة وأمنيّة عديدة على الدّول الأوروبيّة. فالإرهابيّون الّذين يدخلون البلاد كلاجئين، والاختلافات الدينيّة المُتجذّرة وأحيانًا العدائيّة، إلى جانب العبْء الثّقيل لتوفير الاحتياجات الأساسيّة لِلاجئي الحرب، وضَعَ الحكومات الأوروبيّة في موقفٍ صعب، وفي بعض البلدان، عومِل هؤلاء اللّاجئون مُعاملةً غير إنسانيّة. ويتعيّن على أوروبا اليوم الاختيار بين وقوع كارثة إنسانيّة، وبين الحفاظ على النّظام والاستقرار النسبيّين في المنطقة. إذًا؛ الضّغط على تركيا لوقف بناء السّدود، وبالطبع زيادة الحقوق المائيّة لدول مثل سوريا والعراق من نَهرَيْ دجلة والفرات، ما هما إلّا جزءٌ ممّا يُمكنُ أن تفعله الدّول الأوروبيّة لإنقاذ الشّرق الأوسط، وحتّى نفسها، من تداعيات الجفاف والحرب.
كما يتعيّن على الولايات المُتّحدة اتّخاذ إجراءات أكثر جديّة لمكافحة الجفاف في الشّرق الأوسط، فهي (الولايات المُتّحدة) لم تعد ترى ضرورة لتواجدها في المنطقة، حيث تحوّل تركيزها إلى مُنافسة القوى العُظمى مع الصّين، في منطقة المحيطَيْن الهندي والهادئ. تخطّط الولايات المُتّحدة لإغلاق عددٍ كبيرٍ من قواعدها العسكريّة في الشّرق الأوسط، ونقل جزءٍ كبيرٍ من قوّاتها العمليّاتيّة إلى شرق آسيا. لكن مغادرة الشّرق الأوسط تتطلّب الحفاظ على السّلام والاستقرار في المنطقة، التي يُدرك الأميركيّون الوضع المُزري فيها، وهم يعلمون أنّ جذور عدم الاستقرار في المُستقبل تكمن في الموارد المائيّة، وليس في الصّراع من أجل السّلطة السّياسية أو السّيطرة على موارد الطّاقة الأحفوريّة. إذا أرادت الولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة بأقلّ العواقب، فعليها اتّخاذ خطوات أكثر جديّة للسّيطرة على الجفاف في الشّرق الأوسط، بما في ذلك منع تركيا من بناء المزيد من السّدود وزيادة كميّة المياه التي تدخل نهري دجلة والفرات.
عمومًا، تأثير الجفاف في الشّرق الأوسط لن يقتصر على هذه المنطقة فحسب، بل ستغرق #اوروبا بلا شكّ بعدد هائل من المُهاجرين، من بينهم جهاديّون مُتطرّفون، الأمر الذي ربّما يُمثّل تحديًا كبيرًا للوضع المُهتز فعلًا في الدّول الأوروبيّة. قد تفقد الولايات المُتّحدة أيضًا الاستقرار الذي تحتاجه في المنطقة للتّركيز الكامل على الصّين. مشاريع بناء «سدود أردوغان» ساهمت بشكل كبير في الجفاف في الشّرق الأوسط وألحقت أضرارًا جسيمة بالصّناعات الزّراعيّة في دول مثل العراق وسوريا. لقد حان الوقت عالميًّا، لا سيما للدّول الأوروبيّة والولايات المتحدة، لوضع حدّ لمغامرات أردوغان في إحياء الإمبراطوريّة العثمانيّة.
*باحث إعلامي إيراني