كان حلمنا وطنًا واليوم حلمنا هجرة

على وقع المعاناة والفقر والألم، حمل اللبنانيون في جعبتهم ما تبقى لهم في تخوم هذا الوطن المنكوب، قاصدين أي بقعة جغرافية قادرة على احتضانهم، راحلين وفي قلوبهم الكثير من الحسرة والقليل من الأمل، بأن يعودوا يومًا ليكملوا ما تبقى من أيام حياتهم على أرض وطن محتضن منتمٍ إليهم.

ولأن السياسة وعلى رأسها سلطة البلاد الحاكمة، الملوثة بتاريخ من الفساد والسرقة والدم، فرّقت اللبنانيين وقطعت أوصالهم، إلا أن مفاعيلها الخبيثة التي أنهكت البلاد والعباد، وحدت اللبنانيين على أمر يكاد يكون واحدًا، ألا وهو الرغبة الملحة بالهجرة بعيدًا عن هذا البلد بأي طريقة ومقابل أي ثمن، والثمن كان في العديد من المحاولات أرواحهم.

معدلات الهجرة الأخيرة: من الأعلى في تاريخ لبنان
لم تكن الهجرة اللبنانية ظاهرة جديدة أو حديثة، بل هي قديمة في التاريخ اللبناني، وقد مرت بمحطات عديدة تلخص بشكل عام بثلاث محطات أو موجات، كانت خلالها معدلات الهجرة مرتفعة على نحو لافت جدًا، يأتي في مقدمتها تلك التي شهدها لبنان في أواخر القرن التاسع عشر، امتدادًا حتى فترة الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916)، حيث يُقدر أن 330 ألف شخص هاجروا من جبل لبنان آنذاك.

أما الموجة الثانية، فقد كانت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990)، وتقدر أعداد المهاجرين في تلك الموجة بحوالى 990 ألف شخص، أما ما نشهده اليوم فهو بمثابة “الموجة الثالثة” والتي وفقًا للإحصاءات الأخيرة التي أجرتها ” الدولية للمعلومات” فقد بلغ عدد المهاجرين فيها وخلال خمس سنوات فقط (2018-2021)195,433 مهاجرًا لبنانيًا، أما في عام 2022 فقد بلغ عدد المهاجرين اللبنانيين ما يقارب الـ 55 ألفًا.

وفي دراسة أخرى نشرها موقع arabbarometer.org تبين أن 48 % من المواطنين اللبنانيين يرغبون بالهجرة، وبالحديث عن الأسباب التي دفعت هؤلاء لذلك، تظهر الدراسة أن الفساد يأتي في مقدمة هذه الأسباب ( 44%) ، يليه الاعتبارات الأمنية (29%)، والأسباب السياسية (22%)، وأخيرًا الأوضاع الاقتصادية (7%).

وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن لبنان مهدد -ومنذ القدم- بهجرة العقول، واليوم أكثر من أي وقت مضى، إذ تبين الدراسة نفسها أن 61 % ممن لديهم شهادات جامعية يرغبون في الهجرة، مقارنة بـ 37 % ممن حصلوا فقط على تعليم ثانوي أو أقل.
لم يقتصر هذا الارتفاع الكبير في معدلات الهجرة على الشرعية منها، إذا إن الأمر نفسه طبّق على صعيد الهجرة غير الشرعية عبر الطرق البحرية المحفوفة بالمخاطر الكبيرة، فقد عبر ما نسبته 12 % من اللبنانيين الراغبين بالهجرة عن استعدادهم لمغادرة البلاد من دون وجود وثائق رسمية وشرعية.

مخاطر الهجرة تتعمق والمخاوف كثيرة
لم تكن ظاهرة الهجرة كما ذكرنا وليدة الساعة في الواقع اللبناني، وبالتالي فإن التداعيات التراكمية لهذه الظاهرة بدأت معالمها بالنضوج والوضوح والتأثير العميق أيضًا.

ولأن الساحة اللبنانية شهدت خلال الخمس سنوات الأخيرة موجة هجرة مرعبة، فقد كانت آثارها حتمية ومباشرة على المجتمع اللبناني وواقع البلد ككل.

آخر هذه التداعيات الخطيرة كان على صعيد القطاع الصحي والطبي، والذي شهد نقصًا حادًا في الكوادر الطبية المتوفرة نتيجة انخفاض رواتبهم بشكل كبير جدًا بالإضافة إلى النقص الحاد في الأدوية والعلاجات والأجهزة الطبية.
أضف إلى ذلك، الهجرة الكبيرة التي شهدها القطاع التعليمي، بعد أن وجد المعلمون أنفسهم في واقع مأساوي، وبالتالي ظهرت بشكل كبير حاجة المدارس إلى معلمين في الآونة الأخيرة.

ومن أبرز مخاطر الهجرة أيضًا، التغيير الديمغرافي الذي يمكن أن تسببه على المدى المتوسط، لا سيما وأننا نعيش في بلد لديه نظام سياسي مرتكز على التوزع الديمغرافي للسكان، وبالتالي فإن أي تغيير يطرأ على هذا التوزيع، سيحدث حتمًا خلل في التوازن السياسي بالبلد، مع العلم أن أسياد النظام السياسي القائم هم أساس كل بلاء حل وسيحل بنا.

وكفكرة أخيرة، لا بد لنا من ألا ننسى، أن هجرة اللبنانيين يحل مكانها إقامة العديد من السكان غير اللبنانيين، وبالتالي فإن الأمور سينتج عنها المزيد من الأعباء والمسؤوليات على كاهل كافة قطاعات الدولة الهاربة من مسؤولياتها أساسًا.

تأتي ظاهرة الهجرة اليوم لتنضم إلى غيرها من الظواهر والمشاكل والتحديات التي أرهقت كاهل اللبنانيين واستنزفت ما تبقى فيهم من روح، وكل هذا حدث ويحدث أمام حفنة من الزعماء الفاسدين الذين نامت ضمائرهم في سبات أبدي، وإن حصل واستيقظوا يومًا فإنهم لن يجدوا سوى بقايا وطن.

اساسي