ويفا البدوي – خاص الناشر |
فجرُ السادسِ مِنْ فبراير، ليس يومًا عاديًا في تُركيا وسوريا. زلزالٌ مدمرٌ يضربُ جنوبِ تُركيا وتنسحبُ آثاره بقوة حتى الوسط السوريّ. ومع بزوغِ الفجرِ، المشهدُ يتكشفُ شيئًا فشيئًا، إنها فاجعةٌ بكلِّ ما للكلمةِ مِنْ معنى.
لا بُدَّ مِنْ إغاثةٍ سريعةٍ. دولٌ ترسلُ مساعداتٍ وفرقَ إنقاذٍ إلى تُركيا. أمّا في سوريا فالمشهدُ يشوبهُ الرعبُ، في بلدٍ يعاني منذُ اثني عشرَ عامًا مِنْ أزمةٍ، عاظمت مِنْ وطأتها العقوبات الأميركية والغربية والعربية للأسف.
مَنْ ينظر إلى مشهدِ حلبَ الجميلةِ، لا بُدَّ أنْ يذرفَ دمعًا، فمشهدُ المدينةِ التي كانت مقصدَ كل زائرٍ إلى سوريا لا يُشبه حلبَ. يمكنُ تصوريها كذاك الوجهِ النقي الذي أصابهُ تشوهٌ لا يدفعكَ إلى تمييزهِ.
“الحصار”، ليسَ مجردَ كلمةٍ. لقد تَجَسدَ إبانَ الكارثةِ. ليس سهلًا أنْ تتهافتَ دولة بكل مقوماتها وتقفَ عاجزةً عن بدءِ رفعِ الأنقاضِ. تسألُ عَنْ سببِ عدمِ وجودِ معداتٍ هندسيةٍ، فيأتيكَ الجوابُ سريعًا: لا معدات بسببِ الحصار. الإرهابُ ابتلعَ أكثرَ مِنْ نِصفها. هناك إحصائيةٌ عَنْ خسارةِ الدولةِ خمسينَ ألفَ آليةٍ، لو كانت موجودة لما احتاجَ السوريّونَ الى شحن كلِّ آليةٍ مِنْ مُختلفِ أنحاءِ القطر، ولا انتظارِ آلياتِ رفعٍ ثقيلة تأتي مِنْ لبنان والعراق برًا.
صحيحٌ أنَّ دولًا صديقةً كروسيا وإيران والعراق والجزائر، لم تنتظر إذنًا وحطت طائراتُها في دمشقَ وحلبَ واللاذقيةَ، قبلَ أنْ تلحقَ بها دولٌ أخرى كالإمارات ومصر وليبيا وتونس، إلا أنَّ العقوباتَ تبقى عائقًا، تحديدًا “قانونُ قيصرَ” المُقَر عامَ 2019، والذي يمكنُ أن تتعرضَ بموجبهِ أيُّ دولةٍ تتعاملُ مع دمشقَ إلى عقوباتٍ.
قبلَ الاستثناء الأميركي – غير الواضحِ – الذي صدرَ عنْ وزارةِ الخزانةِ الأميركية، لا بُدَّ مِن التوقفِ عندَ المشهدِ الشعبي العربي، والذي يمكنُ الرهانُ عليهِ في الحاضرِ والمستقبلِ لنقولَ إنَّ وطنَنَا العربي ما زالَ بخيرٍ.
مِنْ لبنانَ والعراقِ ودولٍ أخرى، كالإمارات وحتى السعودية، وحتى فلسطينَ في الضفةِ الغربيةِ المحتلة، هباتٌ شعبيةٌ، سارعت إلى تنظيمِ حملات التبرعات المادية والإغاثية. مِنْ لبنانَ والعراقَ، وفي اليوم الثالث، بدأت قوافلُ الإغاثةِ المقدمةِ من الشعوبِ بالعبورِ، وهيّ تتعاظمُ وتكبرُ يومًا بعد يومٍ ولم تتوقف، كحال قوافل “رحماء” التي تواصل جمع التبرعات والسير بها نحو سوريا.
في الجزائرِ، البلد العربيّ الذي يرفعُ لواءَ فلسطين القضيةَ، حملاتٌ بدأت هيئاتٌ شعبيةٌ وهيئاتُ مجتمعٍ مدني تنظيمَها لجمعِ التبرعاتِ والمساعداتِ ووضعِها في تصرفِ الدولةِ تمهيدًا لنقلها إلى أرضِ الشامِ.
فلسطينُ بدورها، التي تعاني من الاحتلال، وهي في أمس الحاجةِ إلى كلِّ عنصرٍ وسيارةِ اسعافٍ، تراها تُرسل فريقًا، عبَرَ الحدودَ من الأردنِ إلى دمشقَ لإسنادِ الشعبِ العربي الشقيق في سوريا. وفي دولٍ كالسعوديةِ والكويت، حملاتُ تبرعٍ ماليٍ واغاثيٍ، بعضها اكتمل وطُلِبَ الإذنُ لتحطَّ الطائرات في مطارِ دمشق، كما أعلن مدير الطيران المدني في سوريا عن طلبٍ تلقاهُ لهبوطِ طائرةٍ من الهلالِ الأحمرِ السعودي.
هذه الاندفاعة الشعبيةُ، وإذ تُعبرُ عن الحالةِ الإنسانيةِ والعاطفيةِ، إلا أنها تبينُ حجمَ التآخي الذي لا يمكنُ للسياسةِ أن تقفَ عائقًا في وجههِ. وبعدَ اثني عشرَ عامًا من الانقسام حولَ الأزمةِ السوريّة وأسبابِها، ترى الناسَ تَعبُرُ عنهُ لتقدمَ الوحدةَ والإنسانيةَ على ما سواهِما، وهذا أمرٌ يُبنى عليه.
لتبيانٍ الحالةِ العاطفيةِ الشعبية العربية اتجاهَ سوريا، يكفي أن نستحضرَ موقفَ ” علي صفي الدين “، الشاب اللبناني من عناصر الدفاع المدني، الذي أخرجَ ابنته إبانَ عدوان تموز عام 2006، جثةً من تحتِ الأنقاضِ، والذي كان ضمن البعثةِ اللبنانية إلى الساحلِ السوري، عندما أخرجَ أمًا ونجلَها مِنْ تحتِ الأنقاض، لِتسبِقَهُ الدمعات، ثمَّ يقولُ حالنا واحد، هناك ربٌّ يُعبد. علي الذي عادَ إلى لبنانَ ولم يخلعَ ثوبهُ المخضب بالدماءِ، مُصِرًا على رائحةِ “مسكٍ وعنبرٍ” تفوحُ مِنه. علي هو نموذجٌ للتآخي العربي العربي، ولوحدةِ الدمِ والمصيرِ. التآخي الذي يُبينهُ أيضًا مشهدُ جنديٍ سوريٍ يستريحُ إلى جانبِ عنصرٍ من فريقِ الإنقاذ الجزائري على طرفِ أنقاضِ مبنى منهار في “حلب” ويقولُ له: نحنُ نُحبكم.
هذه الحالةُ التي نَعيشُها، والعاطفةُ التي تغمُرنا اليوم اتجاه سوريا، ستبقى السندَ في مواجهةِ “الحصار”. وعلَّمَنا التاريخُ أنَّ الحصارَ يُكسرُ بالإرادةِ، تلك الإرادة المبنية على الاتحادِ، وفي الاتحادِ قوةٌ.