الحاج رضوان.. مأساة العدوّ وعماد المقاومة بلسان الحاج قاسم سليماني

الحاج عماد اسمٌ حُفر في ذاكرة المقاومة، وكان كابوس العدوّ منذ سنين مضت، وما يزال ليومنا هذا اسمًا ملهمًا يعلمنا بمجدنا الذي صنعته مقاومتنا التي تقرّ قيادتها بأنّ أغلى ما لها هم هؤلاء القادة الشهداء الذين رسموا للأمّة طريقها الأعزّ، والذين منهم عمادنا، قائد صبرنا، وصانع الانتصارات.

هو عماد مغنية المعروف بالحاج رضوان. ولد في مدينة صور اللبنانية في شهر تموز من العام 1962م. سجّل باسمه العديد من العمليات التي طالت رقبة العدوّ وهزّت كيانه، وأنزلته من أعلى عرشه، وأفاقته من غروره وكبريائه، إذ أحسّ العدوّ من يد عماد التي بطشت بيد الحق بالمرارة والهزيمة. كان العدوّ قبل الحاج عماد قلّما تؤلمه الرياح اللبنانية، فهو القائل في العام 1982م بأنّه لا محال سيحتل لبنان بالفرق الموسيقية! لقد أخطأ العدوّ إذ ظنّ أنّ رجالنا نائمون، بيد أنّهم كانوا له بالمرصاد، ليرسموا بهزيمته أبهى الانتصارات، سمّها ما شئت أيّها العدوّ، قل عنها معجزة حتّى، إنّما نحن أهل هذه الأرض أسميناها مقاومة.

في أوائل مسيرته انتسب إلى جبهة التحرير الفلسطينية، وإلى القوّة 17 تحديدًا المختصة بحماية الشخصيات القيادية. وبفضل علاقته بالجبهة، استطاع لاحقًا أن ينقل السلاح –لغة المقاومة الوحيدة مع العدوّ– منها إلى حركة أمل وحزب الله، التنظيمين الذين انتقل إليهما الحاج.

انتقل الحاج بعد خروج جبهة التحرير من لبنان إلى الحركة التي أسسها السيد موسى الصدر والتي قاد فصائلها المسلحة الشهيد مصطفى تشمران الذي تعرفه صور جيّدًا، بل لبنان وكل تلاله الجنوبية. ثمّ بعد تأسيس حزب الله، انتقل إليه بالتزامن مع التحاق السيد حسن نصر الله بالحزب أيضًا، وقد كان للحاج مع السيد علاقة قديمة وطّدتها الأيام فيما بعد.

وعن هذه العلاقة يحكي الحاج قاسم سليماني الذي عرف الاثنين معًا، وكان معهما في أصعب الظروف إبّان حرب تموز 2006م، وقبلها وبعدها، وهو آخر من رأى الحاج عماد في دمشق قبيل اغتياله. يقول الحاج قاسم: “كان الحاج عماد غريب الطاعة، فقد كان متواضعًا جدًا أمام تلك الشخصية الفريدة لسماحة السيد حسن نصر الله (روحي فداه). كان لدى الشهيد مغنيـة نظـر مغاير لرأي السيد حسن نصر الله في بعض الأمور إلا أنّه كان يُلزم نفسه بتنفيذ قرار الأمين العام طاعةً للتكليف، ولم يحدث أن لاحظ أحد من المجاهدين يومًا أن قام الشهيد بمخالفة أي قرار للأمين العام لحزب الله. أحيانًا كنتُ أرى السيد قلقًا، إلا أن الشهيد مغنية كان يجلس معه حتى الصباح، ولا يغادر إلى أن يرى بسمة السيد على شفتيه ويشعر بطمأنينة قلبه.
إنّ قول الأمين العام بحق الشهيد عماد بأنه ابن الإمام الخميني كان صادقـًا تمامًا ومتكاملًا. كان عماد مغنية يعتقد بأنّ استعادة عزّة لبنان كانت بفضل قيادة السيد حسن نصر الله الحكيمة، وقد التزم طوال فترة جهاده بأوامره، وكان ينظر للسيد على أنّه منقذ الشيعة في لبنان كما أن المسيحيين يدينون له في وجودهم بسبب تدبيره وحكمته”.

بعد حصول عملية الأسر في العام 2006م والتي أسمتها قيادة المقاومة بعملية “الوعد الصادق”، أوّل من خطر في ذهن العدوّ هو نفسه رجل مأساتهم عماد الذي أسموه برجل الظل أو “الشبح”. وبعد هذه العملية اندلعت الحرب، وشنّ العدوّ عدوانه وحربه المفتوحة على كل الأراضي اللبنانية، وكالعادة كان الحاج عماد وكامل رفاقه بالجهوزية التامة لتلقين العدوّ درسًا تاريخيًّا لا ينساه، فوجّه خلال حرب الـ٣٣ يومًا ضربات قاضية للعدو الإسرائيلي، كان أبرزها الضربة التي حصلت أثناء خطاب الأمين العام لحزب الله وتحديدًا عند قول سماحته: «انظروا الآن»، عندها رميت البارجة الحربية الإسرائيلية بصاروخ أدّى إلى تدميرها وإخراج سلاح البحرية من معادلة الحرب.

شکّل تدمير البارجة الحربية (ساعر) واحدًا من أهم أحداث حرب الـ٣٣ يومًا، ما زاد حيرة الإسرائيليين والأمريكيين من كيفية توجيه هذه الضربة، ومكان إطلاق الصاروخ، وطبيعة السلاح المستخدم، وكيف أن أجهزة الرصد المنظورة التي كانت على متن البارجة لم تظهر أي إشارة حينها، رغم كونها مجهّزة لذلك. نتجت عن هذه الضربة موجة سلبية في نفوس القوات الإسرائيلية مقابل موجة من الفرح والحماس في صفوف المقاومين، حتى أنّ حزب الله تمكّن خلال الحرب من إصابة بارجة أخرى عبر صاروخ كروز، إلا أنّ العدوّ لم يعترف بذلك حتى اليوم.

كان العدوّ يخشى عقلية الحاج عماد، الذي أطلق شعار “الهدف محدد ودقيق: إزالة إسرائيل من الوجود”، والذي أحيا ضمائر مجاهديه من الجيل الثالث والرابع وربّما الأجيال القادمة بشهادته المباركة ومواقفه وروحيّته. كان الحاج رجلًا أمنيًّا بكل ما للكلمة من معنى، لذلك ما وصلنا نحن المحبّين كان قليلًا جدًّا، ولو أنّ هذا القليل هو كثير وغزير في مفعوله.

ومن الطرق التي وصلتنا لتعرّفنا شخصية الحاج، رفاق دربه الذين لازموه وعاشروه طوال سنين، ومنهم الحاج قاسم سليماني الذي آخاه من اللحظة الأولى التي تعرّفا على بعضهما بعضًا فيها في العام 1998م حين تسلم الأخير قوّة القدس، وبدأ متابعاته مع قيادة المقاومة. يقول الحاج قاسم عن الحاج عماد: “الحاج عماد نفسه تجسيدٌ لحزب الله” أي أنّ الحاج عماد شكّل نموذجًا عن أبناء حزب الله، ولا شكّ أن الحاج قاسم يقصد “حزب الله” بالمعنى الأعم، وليس كونها مقتصرة على التنظيم الذي كان ينتمي إليه، لأنّ الحاج قاسم يعلم جيّدًا عالمية الحاج عماد وأهدافه.

يقول الشهيد الحاج قاسم سليماني في حق رفيقه الحاج عماد في خطاب له بالحرف الواحد: “في الحقيقة، أنا لم أعرف أسطورة تشبه الحاج عماد، سواء بين صفوف الذين استشهدوا أو بين الذين يسلكون اليوم درب الشهادة”.

أحدثت شهادة الحاج عماد مغنية ضجة كبيرة في العالم الإسلامي. بعد رحيل الإمام الخميني، لم أر شخصية من غير العلماء كشخصية الحاج عماد والذي خلّفت شهادته حزنًا كبيرًا في العالم الإسلامي. كتبت في حقه مئات المقالات والبيانات والخطابات. لم يستطع أحد ذمه، بل على العكس، حتى الأعداء قاموا بمدحه واحترامه وهذا لم أره سوى عند رحيل الإمام الخميني، حيث لم يستطع أعداؤه القيام بشيء غير مدحه وتقديسه. لذلك، فإنّ الذين كانوا ينتقدون الحاج عماد في مختلف الدول قاموا بمدحه بعبارات مطولة بعد استشهاده. لم يستطع أي شيء أن يعطّل مسيرة الشهيد عماد مغنية”.
وعن كونه كابوس إسرائيل يكمل الحاج قاسم: “كان عماد بمثابة رجل المأساة بالنسبة للعدو؛ فعلى الرغم من كل التدابير والاحتياطات التي كان يتّخذها العدو فقد عانى هذا العدو من المآسي والفجائع في نهاية كل معركة خاضها مع عماد. كان الشهيد مغنية الرجل الأول الذي استطاع اختراق الصور المباشرة لطائرة مسيّرة تابعة للعدو ومن خلالها أدرك نية الإسرائيلي في جنوب لبنان. وكانت عملية أنصارية أكبر الهزائم التي تعرض لها العدو كنتيجة لتخطيط وتحضير عماد مغنية لها”. وبخصوص تلك العملية التي تعدّ كمينًا تاريخيًا للمقاومة ضد العدوّ الإسرائيلي تمكّن المجاهدون من قتل 12 جندي إسرائيلي (من قوّة الكومندوس).

ظلّ العدو ينكر هذا الكمين طوال سنوات إلى أن اضطر للاعتراف به بعد کشف تفاصيله كاملة من قبل حزب الله الذي استطاع أن يحدّد عدد ومسير حركة القوة الإسرائيلية آنذاك. واعتبره نتنياهو الذي كان عنصرًا في قوة الكومندوس الإسرائيلية، أنّ هذه العملية من أقسى المصائب التي حلت بهم وقال: “خسرنا عددًا من جنودنا المميزين، وأنا لا أبالغ بذلك، في الماضي واجهنا مصائب كثيرة إلا أنّ هذه المصيبة لا سابقة لها”.

وعن شخصيته الفريدة التي استطاع من خلالها توحيد قوى المقاومة يقول الحاج قاسم: “امتلك الشهيد مغنية شخصية عجيبة بحيث كان يدخل بيوت خصوم حزب الله والبعيدين عن فكره ويناقشهم. كان يسعى لإقناعهم بالتحالف مع حزب الله، وعندما كانت محاولته لا تنجح كان يقول: أنا لست رضوان، أنا عماد مغنية! وكان الجميع عندها يقومون بعملهم على أكمل وجه، في حين كان الكثيرون يقصدون أماكن معينة بدعم أمني كبير وبرفقة أجهزة حماية ضخمة، كان عماد يذهب إليها فريدًا ويجري نقاشاته ثم يخرج منها بدون جلبة. لقد منحوه لقبًا دقيقًا عندما قالوا أنّه كان يهبط كالسيف والبرق ويختفي كالشبح.

كان يعتقد الحاج رضوان بأنّ إخضاع العدو يستدعي إحياء وتضافر كل القدرات الجهادية في العالم الإسلامي. كان عماد مغنية الشخص الذي ربط الحركات الفلسطينية بمركز المقاومة وأول من أحضر ياسر عرفات إلى إيران. لقد رفع من قدرات حركة حماس وفعّل عمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهذا العمل حوّل غزّة إلى حصن لا يقهر. إنّ غزة ولبنان اليوم مصدر القلق الدائم لـ”إسرائيل” وكما قيل “كل صاروخ يتم إطلاقه من غزة يمكن رؤية بصمة عماد مغنية عليه”.

اصطحبني ذات مرة معه إلى غرفة عملياته وأراني المبنى المقابل، وقال: يراقبني فريق باستمرار عبر الكاميرا من هذا المبنى. كان يجاري عدوّه إلى نقطة يقضي فيها عليه مع كل قدراته وتجهيزاته. حاول الأمريكيون والإسرائيليون اغتياله عدّة مرات لكن محاولاتهم باءت بالفشل مررًا.
لم يكتف بالمساعدة على انهيار حزب البعث في لبنان فحسب، بل ساهم بالقضاء عليه في العراق أيضًا وقدّم المساعدة للمجاهدين العراقيين”.

وعن شهادته العظيمة والثأر لدمائه قال الشهيد سليماني أو لواء الإسلام كما أسماه سماحة القائد الخامنئي حفظه الله: “أدّى استشهاد الحاج عماد إلى إغراق العالم الإسلامي في الحزن، لكن من المهم الإشارة إلى أنّ الإسلام ذو قوة إنتاجية، ودائمًا ما يُخرج إلى العالم الإسلامي شخصيات جديدة درست وتدربت في نفس مدرسة الشهيد مغنية”.

الملاحظة التي يعلمها العدو والتي يجب أن يُدركها جيدًا، هي أنّ القصاص لدماء عماد ليس بإطلاق صاروخ وليس بقتل شخص، بل إنّ القصاص لدماء عماد وجميع من هم كعماد واستشهدوا في فلسطين ولبنان وإيران وباقي الأماكن على إثر مؤامرات الكيان الصهيوني، هو القضاء واجتثاث هذا الكيان الصهيوني قاتل الأطفال. العدو يعرف أنّ هذا الأمر حتمي ويعرف أنّه يولد يوميًا عشرات الأطفال الذين يحملون أسماء الشهداء وسيملؤون أماكنهم، لذلك فإنّ هذا الوعد الإلهي سيتحقق ونحن على ثقة بتحقق هذا الوعد”.

ونحن أبناء ذلك الشهيد، نؤمن بذلك الوعد الذي تكلّم عنه الشهيد الحاج قاسم، وشهدناه لمرّاتٍ عديدة، ونعلم جيّدًا أنّ طريق الشهداء مستمّر لا توقفه المطبّات، فاليوم بعد رحيل الحاج عماد، ورحيل الحاج قاسم، لا زالت زغاريد الفرح تزفّ انتصاراتنا، وأوّل الغيث محور المقاومة الذي خطّاه بيديهما الشريفتين، وهو اليوم ما زال يكبرُ ويتوسّع، وسيبقى يتّسع نطاقه كل ساعة.

اساسيالحاج رضوانالمقاومةحرب تموزعماد مغنيةقاسم سليماني