انشغل العالم بأسره في الأيام الأخيرة بمأساة إنسانية هزت بقاعًا عديدة، وأصاب الهلع قلوب ساكنيها وباقي سكان الأرض، على إثر الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق عديدة في شرق المتوسط، وأسفر عن سقوط العديد من الضحايا وآخرين كثر في عداد المفقودين والمشردين.
لم يكن لهذه المأساة بعد إنساني فقط، مثلها مثل أي حدث يضرب العالم، في أي منطقة فيه، بل تخطى الأمر البعد الإنساني -رغم أنه الأهم- ، وكان له أبعاد اجتماعية وإعلامية وحتى سياسية، حيث شكل مادة دسمة لأعداد هائلة من “متعددي المواهب” المنتشرين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يتحفوننا كالعادة وعند أي حدث أو مناسبة، بغبائهم الذي لا ينضب.
إشاعات وكذب وتهويل وأكثر
تضج وسائل التواصل الاجتماعي بواقع المأساة التي حلت. تنقل لنا الخبر لحظة بلحظة، خبرًا تلو الخبر، ولا شيء ينتهي. أخبار كثرت مصادرها، حتى بات كل مغرد وكاتب وصاحب حساب على هذه المواقع مصدرًا بحد ذاته.
لم تنكر الإنسانية يومًا فضل وسائل التواصل الاجتماعي في رسم صورة الحياة الزاهية التي صورها لنا أصحاب هذه المواقع والمروجون لها، ولكنها في الوقت عينه أخذتنا في مسارات ومتاهات لم نعد قادرين على تحملها ولا حتى على مواجهتها، فباتت هذه المواقع مسرحًا ضخمًا جدًّا لضخ الأكاذيب والإشاعات التي ليس لها من معنى سوى نشر الذعر والهلع واليأس والجهل بين الناس.
عن قصد أو بغير قصد، عن وعي أو قلّة وعي، الحقيقة المسلّم بها أن مثل هؤلاء لا قيمة لوجودهم “الافتراضي” أساسًا، وربما الواقعي، إذ إن هذا “الجهل” المنتشر مؤخرًا بهذه الوتيرة هو بحد ذاته “كارثة” على البشرية أجمع.
وفي هذا السياق، نأتي للنقطة الأهم، إذ لم تقف الأمور عند حد خلق ونشر المعلومات والأخبار الكاذبة والمؤلمة وبث الإشاعات في كل اتجاه، بل وصل الأمر اليوم إلى مرحلة مثيرة جدًّا للاشمئزاز والغضب، إذ مثلًا وخلال تصفحك هذه المواقع بت تجد من يشخص نفسه “وصيًا” على الناس بتكليف لا أدري ولا هو يدري مصدره، يكفّر هذا ويحرّم هذا، يخطب بذاك ويطلق الأحكام على ذاك، منصبًا نفسه في موقع محاسبة البشر، ناسيًا لشدة غبائه أن الذات الإلهية هي فوق كل شيء وكل أحد.
أضف إلى وجوه هذه الكارثة وجهًا آخر قديمًا جديدًا، ألا وهو هذا الكم الكبير من الأحاديث الشريفة التي تنسب يمينًا شمالًا، وتنشر تحت اسم قائلها دون أن يكون لها وجود في الأساس، فضًلا عن معناها الذي لا يمت لصفات قائلها بصلة، وأخيرًا وليس آخرًا أساليب “التنكيت” المخزي والمقرف الذي يسجل له الحضور الكبير للأسف عند كل حدث أو مأساة.
تبيّنوا.. كفاكم جهلًا
لقد سمحت شبكات التواصل الاجتماعي بانتشار الشائعات باختلاف أنواعها، وشكلت بيئة خصبة لنموها، وذلك لما تتميز به من جمهور عريض وسرعة النشر الفائقة في ظل استخدام طرق عدة لعرضها سواء بالنص أو الصورة أو الفيديو أو الرسم. وتوصلت الأبحاث والدراسات المختلفة إلى أن معدلات انتشار الشائعات تتناسب طرديًّا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
وفي هذا السياق، تظهر الدراسات أيضًا أن ما يقارب 63% من مستخدمي هذه المواقع، يستخدمونها كمصدر للأخبار لديهم، الأمر الذي يضعنا فعلًا أمام واقع مقلق وخطير جدًّا إذ وبالعودة إلى ما نشهده اليوم من كذب وادعاءات ونشر للجهل عبر هذه المواقع، فإن الأمر فعليًّا بات يهدد وعي وحياة الملايين من الناس على سطح الكوكب.
وفي محاولة ربما لاستدراك الأمور وإيجاد حلول لهذه الظاهرة المنتشرة كالنار في الهشيم، لا بد من الدعوة الدائمة، بمناسبة وغير مناسبة، إلى التبيّن والتثبت والتأكد من صحة كل خبر، وأبعاد نشره وقبل كل شيء الفائدة من نشره على الرأي العام الافتراضي والواقعي.
إن المأساة الأخيرة التي حلت منذ أيام، كانت خير دليل على جهل الكثيرين جدًّا من مستخدمي مواقع التواصل بمفهوم “التبيّن”، ولك أن تتخيل أن جيشًا افتراضيًّا جاهلًا يقود مثل هذه المنصات، فتصبح المصيبة مضاعفة وتداعياتها أعظم بكل ما للكلمة من معنى. وخير ما يقال لهؤلاء القوم، قوله تعالى في محكم كتابه العزيز: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.