دخلنا النفق المعتم معيشيًا بعد سنين طويلة من الترنّح الاقتصادي والتفتّت البطيء للبنية الإنتاجية في البلد. وكان انتقال غالبيتنا من مرحلة العيش بالمستوى المتوسّط الذي يؤمّن الضروريات بسهولة، نسبيًا، ويتمتّع ببعض الكماليات إلى مرحلة الضّيق المعيشي الذي يجبر المرء على التخلّي حتى عن الضروريات والسعي الحثيث لتأمين ما هو حيويّ منها فقط، بمعنى ما لا يُمكن الإستغناء عنه.
هذه الخطط التوفيرية ان صحّ التعبير شملت كلّ الحاجيات الضرورية في المنازل: من القطع الكهربائية إلى المواد التموينية، ومن صيانة ما يتعطّل وتصليحه عوضًا عن استبداله بآخر جديد إلى تقليل المشتريات والاعتماد على المونة المنزلية قدر المستطاع. كذلك شملت الخطط البديلة كلّ وجوه أنماط الحياة: تقليل النزهات والطعام خارجًا إلى صفر تقريبًا، الإستغناء شبه النهائي عن وسائل الراحة والترفيه، استبدال السيارات بالدراجات النارية ذات التكلفة الأقل، قضاء أوقات العطلة في المنازل عوضًا عن المغادرة إلى القرى، بل حتى الاستغناء عن الأدوية المسكّنة والمتممّات الغذائية والاكتفاء باقتناء البدائل المتاحة من إيران وسوريا للأدوية الخاصة بالحالات المرضية المزمنة.
في أيّ دردشة يمكن للمرء أن يلاحظ المقارنة التي يجريها الناس بين نمط حياتهم قبل الأزمة وبعدها، وعن كيفية مقاومتهم للمصاعب المعيشية المتزايدة: “لم تكن حياتنا قبل الأزمة مترفة”، يؤكّد محمد م.: “كان راتبي يقارب الحدّ الأدنى للأجور مضافًا إليه بدل النقل، وكنّا قد كيّفنا احتياجاتنا مع مدخولنا القليل”، يكمل ساخرًا، “كنت أستخدم الموتوسيكل لتوفير تكلفة السرڤيس من وإلى العمل، الآن أذهب وأعود مشيًا لتوفير تكلفة تعبئة الموتوسيكل!”. ثم بجديّة بالغة يقول “أعدنا ترتيب أولوياتنا المقنّنة والضئيلة أصلًا بما يتناسب مع الوضع. بعين الله كلّه بعين الله”.
في القرى وبعد أن كانت عادة الزراعة المنزلية تتضاءل نسبيًا لسهولة شراء الخضار الموسمية دون تكلّف عناء زراعتها والعناية بها، ولانتشار الخيم الزراعية التي تؤمّن حاجة القرى والمناطق، عاد معظم السكان إلى استثمار “الحاكورة” قرب المنزل: مساكب البندورة والبصل والنعنع والخس والكوسا وغيرها من الزراعات السهلة نسبيًا عادت لتنتشر حول البيوت وتؤمن حاجة المنزل من الخضار التي يتزايد سعرها في المحال التجارية مع ارتفاع سعر الدولار.
يخبرنا ناجي عن محاولة أسرته الاستغناء عن اللحوم والدجاج عبر الاعتماد شبه الكلّي على الخضار التي يتمكنون من زراعتها في قطعة الأرض الضيّقة الملاصقة للمنزل، مع بعض الحبوب من أرز وعدس وقمح، التي ارتفع ثمنها أيضًا. ويشرح: “صحيح أنّه ليس حلًّا جذريًا لكنّه الطريقة الوحيدة التي تمكّننا من تحضير الطعام بشكل يومي!”. يتنهّد بعزّة ملفتة ثم ينتقل إلى تحليل سياسي اقتصادي لأسباب الأزمة وسبل حلّها، ويختم أنّ الاستسلام ليس خيارًا.
“كان من عادتنا الخروج كلّ يوم أحد للترويح عن أنفسنا ولإتاحة الفرصة لأطفالنا الثلاثة للعب خارج المنزل… مضى عام تقريبًا على آخر مرّة خرجنا فيها”، يتدخّل الأب قائلًا “حكينا للولاد قصة الوضع، خليهن يعرفوا عدوهن من هلق.. العدو مش بس بيقصف”. تبدو العائلة فخورة بأنّ أطفالها يعرفون سبب التغيير في نمط حياتهم والذي شمل أيضًا نقلهم إلى مدرسة ذات قسط أقل من تلك التي تأسسوا فيها كما انسحب على مصروفهم اليومي وأكلاتهم المفضّلة.
في الدكان، في السوق، في جلسات الجيران، في مكاتب العمل، يمكن للجميع أن يحكي بالتفصيل كيف تغيّر نمط حياته، كيف سعى بوعي تام إلى مواجهة الأزمة بأدواته الخاصة، دون أن يُسقِط على فعله هذا صفات بطولية، فبكثير من الحياء يبذل الناس ما يستطيعون بذله في إطار صمودهم في المعركة الاقتصادية وماكيناتها المتوحشة، وبكثير من العزّة يتذكرون عبارة “لن نستبدل سلاحنا برغيف الخبز” ويضيفون إليها فعلًا وليس فقط قولًا “ولا بأي شيء آخر”.