منذ إعلان العراق دحر تنظيم “داعش” من معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها في البلاد، اتجهت أنظار حكومات بغداد المتعاقبة منذ العام 2017 إلى إطلاق ورشة إعادة البناء السياسي والاقتصادي، على المستويين الداخلي والخارجي. ووفق هذا التوجه، فُتح باب الحديث عمّا وُصف بـ “الإصلاحات السياسية” في زمن “ما بعد داعش”، لمس بعضها حد المطالبة بتعديل الدستور، ومقاربة دور “الحشد الشعبي”، إلى جانب مؤسسات أمنية وقضائية أخرى، وهي مطالبات عزّزت في دفعها أحداث تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019، بالتوازي مع إطلاق وعود مكرّرة عن مكافحة الفساد، كان آخر فصولها الكشف عن فضيحة الهيئة العامة للضرائب، والمتمثلة بسرقة 2.5 مليار دولار، وذلك خلال عهد رئيس الوزراء الحالي محمد شيّاع السوداني. أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد بدأ العراق يتلمّس طريقه نحو ترسيخ نهجه الخاص، لترسيخ حد أدنى من الاستقلالية، وهو نهج ينطلق من إدراك صانع القرار في بغداد مدى حساسية الواقع السياسي للبلاد في ظل المنافسة الإقليمية الشرسة بين طهران وواشنطن. وبدافع التخفيف من حدة التبعات السلبية للمواجهة الأميركية الإيرانية على الساحة العراقية، والتي وصلت مرحلة حرجة خلال عهد رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي، تلاقحت رغبة الأخير مع رغبة كل من مصر، والأردن الساعيتين بدورهما إلى إنقاذ دورهما الإقليمي المتآكل لحساب قوى أخرى، لا سيما السعودية والإمارات.
الحسابات العراقية من الحلف الوليد
من هنا، وُلدت فكرة قيام تحالف يضم العراق، إلى جانب الأردن، ومصر، أُطلق عليه “الشام الجديد”، الذي يعد الكاظمي الراعي الرسمي له، بمقتضى قمة ثلاثية عقدت في القاهرة في آذار/ مارس 2019 شهدت إطلاق مجلس تأسيسي أردني مصري عراقي. ومع أن بغداد حاولت في فترات سابقة تنويع شراكاتها العسكرية كما جرى خلال عهد حكومة نوري المالكي أواخر عام 2012 عبر توقيع صفقة أسلحة ضخمة مع موسكو، قبل أن تعمل حكومة عادل عبد المهدي بدورها إلى تعزيز الانفتاح الاقتصادي على الصين عام 2019 وابرام اتفاقيات بقيمة 400 مليار دولار معها، وفق ما عُرف بصيغة “النفط مقابل الإعمار”، إلا أن الثمن كان إخراج الرجلين من المشهد السياسي، بضغط أميركي ليس بخافٍ، ما يشي بأن واشنطن تضع سقفًا لمدى التطلعات العراقية لتنويع شراكاتها الخارجية.
ومن الواضح، أن نشوء “الحلف الوليد” بين العواصم الثلاث، لم يكن بعيدًا عن التشجيع الأميركي، علمًا أنّ قمته الثانية عُقدت في واشنطن عام 2020. فمن وجهة نظر محللين غربيين، يعد تعزيز العلاقات بين ثلاثة من أقرب الشركاء الأمنيين والدبلوماسيين للولايات المتحدة، يمكن أن يسهم في طمأنة واشنطن في ظل تخفيض انخراطها في الشرق الأوسط، ويصب في صالحها.
وفي هذا الصدد، توجز المحللة السياسية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال افريقيا، إميلي هاوثورن، أهداف العراق من الانضمام إلى التكتل الإقليمي الثلاثي تتلخص في الحصول على مظلة عربية للوقوف في وجه التدخلات الإيرانية، والتركية على حد سواء، من خلال تكريس آليات تعاون على مختلف الصعد السياسية، والأمنية، والاقتصادية. وكما هو معلوم، فإن العراق، ورغم كونه دولة نفطية، يستورد من إيران نحو ثلث احتياجاته من الطاقة والكهرباء، بينما يعتمد على تركيا لضمان إمدادات المياه، فضلًا عن توسع التجارة الثنائية خلال الأعوام الأخيرة، بحيث وصل إلى 20 مليار دولار، وسط انتعاش التعاون بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان في مجال النفط. كذلك، تأمل الحكومة العراقية استثمار رغبة مصر في تعميق التعاون في مجال الطاقة، والاستفادة من نجاحها في تطوير المزيد من احتياطيات النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا وأن العراق، المثقل بالديون، يحتاج إلى الاستثمارات الخارجية. وفي مرحلة ما، طرح بعض الخبراء الاقتصاديين تسويق الدور المصري، كبديل محتمل لاتفاقية النفط مقابل الإعمار العراقية مع الصين، وإمكانية قيامه بمشاريع بقيمة 10 مليارات دولار على هذا الصعيد عقب التوسع السريع للإعمار في مصر، والذي ساعد في دعم نمو الناتج المحلي الإجمالي المصري بنسبة 5 في المئة في عامي 2018 و2019. ومقتضى ذلك الطرح، هو أن تتولى الشركات المصرية بعض مشاريع إعادة الإعمار لقاء تحصيل تكلفتها نفطًا، أو نقدًا.
ربما أكثر ما تحتاجه بغداد، من علاقاتها مع كل من عمان، والقاهرة، هو عنصر التعاون الأمني، علمًا أن الدولتين تملكان أجهزة استخبارية وأمنية قوية، حيث خضع كادرها البشري لبرامج تدريب غربية وأميركية. كما تخطط بغداد لإنشاء خط أنابيب يستهدف تصدير مليون برميل يوميًا من ميناء البصرة، باتجاه ميناء العقبة الأردني، على أن يمتد لاحقًا إلى سواحل سيناء المصرية عبر البحر الأحمر.
صيغة تكاملية جديدة بين الأردن والعراق: هل تنجح؟
وكأن الأردن اليوم، ومن خلال انضمامه إلى مشروع “الشام الجديد”، يحاول بعث تجربة “الحلف الهاشمي” خلال العام 1958، ولكن بقالب عصري جديد يعلي من شأن الاعتبارات الاقتصادية فوق ما عداها. وفي هذا الصدد، ينظر “مركز دراسات الشرق الأوسط” إلى “الشام الجديد”، بوصفه تجربة أخرى في تكوين شراكات إقليمية جديدة، واضعًا دوافع كل من الأردن ومصر للدخول فيه، في إطار خشيتهما من فقدانهما مكانتهما في القضايا الرئيسية أمام دول الخليج، التي نجحت في توظيف ثرواتها الهائلة وعلاقاتها الدولية في اكتساب تأثير سياسي وأمني في الشرق الأوسط.
وبخصوص دوافع الأردن، فإنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحرص الأردن على إعادة تنشيط التجارة مع العراق، عقب تضرّره في فترة صعود “تنظيم داعش”، ومحاولته تجاوز آثار التكلفة الاقتصادية للعزلة من جانب دول الخليج، وتبعات الوضع المالي السيئ، والاحتجاجات الشعبية في الداخل. كذلك، يحضر في حسابات المملكة الأردنية، التصدي لمحاولات انتزاع “الوصاية الهاشمية” على المقدسات في فلسطين، والرد على تهميشها في مسار “صفقة القرن”، و”اتفاقات أبراهام” خلال عهد الإدارة الأميركية السابقة. فعلى المستوى الاقتصادي، تراهن الحكومة الأردنية على تدشين خط أنابيب نفط يمتد من البصرة إلى العقبة، والذي يتم التخطيط له منذ عشر سنوات على الأقل، وهو مشروع تبلغ تكلفته 18 مليار دولار، في حال توسعه باتجاه الأراضي السورية، إضافة إلى سعيها لإحياء ما يُعرف بـ “خط الغاز العربي” القديم. علاوة على ذلك، تجهد عمّان لتطوير التعاون مع مصر في مجال الطاقة الكهربائية، وبيعها على العراق، مقابل حصول البلدين على أسعار تفضيلية للنفط بحسومات تصل إلى 16 في المئة.
الرؤية المصرية للعلاقات مع العراق
في حقيقة الأمر، تنطلق الرغبة المصرية في توطيد ركائز “الشام الجديد”، لا سيما ما يتعلق منها بتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع العراق، من عدة اعتبارات. أبرز تلك الاعتبارات يتصل بمشاريع الربط التي تعتزم شركات وهيئات مصرية إقامتها مع بعض البلدان العربيّة سواء في مجال الكهرباء أم الطرق، ودعم جهود إعادة إعمار المناطق المدمّرة التي كانت تسيطر عليها التنظيمات الإرهابيّة سواء في العراق، أو في ليبيا. وبحسب تقديرات البنك الدولي، تقارب تكلفة إعادة إعمار كل دولة من الدولتين، ما يقارب الـ 100 مليار دولار، الأمر الذي يحمل دلالة كبيرة على حجم الفرص الهائلة المتاحة أمام تلك الشركات من ملف إعادة الإعمار. وفي مطلع العام 2021 وقّعت الحكومتان المصرية والعراقية 15 اتفاقية ومذكرة تفاهم في عدة قطاعات، أبرزها النفط، والمقاولات، شملت تجديد عقد إمداد “الهيئة المصرية العامة للبترول” بـ 12 مليون برميل من الخام الخفيف لعام 2021. كما تحاول القاهرة توفير فرص عمل لكادرها البشري في العراق، رغم أن العراق يعاني من ارتفاع معدل البطالة التي وصلت إلى 27 في المئة، وعمد بعد احتجاجات العام 2019 إلى ترحيل آلاف العمّال الأجانب. وفي إطار المساعي لفك ارتباط العراق بإيران، تقدّم القاهرة نفسها على أنها الطرف القادر على تعويض العراق عن الطاقة الكهربائية التي يستجرها من جارته الشرقية، في حال وافق على الاستجابة للضغوط الأميركية، مع وجود صعوبات تمويلية لهذا المشروع. وفي العموم، تعاني أطراف الحلف من ارتفاع حجم الدين العام، بعدما تجاوزت نسبته حاجز 90 في المئة إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما هو الحال في مصر، في حن بلغ 101 في المئة، و71 في المئة لدى كل من الأردن، والعراق على التوالي، ما سيترك علامة استفهام كبيرة حول كيفية تمويل المشاريع التي تخطط لها الحكومات الثلاث.
أما لناحية التطلعات الإقليمية للقاهرة، فيذهب محللون إلى أن مصر تشعر بأن مكانتها الإقليمية تتآكل بشكل متزايد، على وقع تهميش دورها في مختلف القضايا العربية ذات الأهمية، مثل سوريا وليبيا واليمن. ولعلها حاولت في الماضي، تعويض هذا الغياب للنفوذ المصري في قضايا الإقليم، من خلال الاضطلاع بدور الوساطة في غزة خلال جولات الصراع المتوالية بين حماس و”إسرائيل”، وهو ما تجلّى في أكثر من منافسة، خصوصًا خلال أيار/ مايو الماضي. على هذا الأساس، تنظر القاهرة إلى التحالف الثلاثي الجديد مع الأردن والعراق، بوصفه إحدى وسائل ترميم صورتها، كزعيم إقليمي وتخفيف وطأة الانتكاسات التي طاولت هذه الصورة في “ملف سد النهضة”. وعقب انعقاد قمة العقبة الرباعية الأخيرة، بحضور قادة مصر والأردن والعراق والإمارات، في آذار/ مارس 2022، شدّدت مصادر حكومية مصرية على أن القمة مثّلت تمسّك القاهرة بمشروع “الشام الجديد” أو “المشرق الجديد”.
وبحسب مركز “ستراتفور” للدراسات الاستراتيجية، ستؤدي الشراكة الناشئة بين الأردن ومصر والعراق إلى تحقيق مكاسب أمنية وتجارية للأطراف الثلاثة، كما أنها ستساعد على تشكيل محور عربي بديل على صعيد المنطقة ككل. فبالنسبة لمصر، تتشارك الأخيرة مع الأردن والعراق مخاوف بشأن تصاعد الدورين السعودي والإماراتي على حساب دور القوى العربية التقليدية. ومع ذلك، لا يخلو الأمر من عقبات، ذلك أنّ اعتماد مصر، أسوة بالأردن، على القوى الخارجية لتحصين وضعها الاقتصادي والأمني لن يسهم فقط في إبطاء وتيرة تشكّل حلف “الشام الجديد”، بل سيحد من آفاق توسعه، وفرص نجاحه. المفارقة أن الدولتين تعتمدان على المساعدات الخارجية، بخاصة الخليجية والأميركية منها، بطريقة تجعلهما غير قادرتين على تحمل تكاليف حرق الجسور مع دول الخليج، والولايات المتحدة بصورة تامة، الأمر الذي يحتّم القول إن أهدافهما من تشكيل الحلف المذكور تكاد تنحصر، في حدها الأقصى، في تنويع علاقاتهما الخارجية، لتجنّب المخاطرة بروابطهما بدول الخليج. ويلفت الموقع الاستخباري إلى أن فكرة قيام حلف من هذا النوع، قد يفاجئ قادة الإمارات والسعودية، اللتين تعملان على تولي زعامة العالم العربي، مبينًا أن الرياض وأبو ظبي قد تعمدان إلى استمالة أطراف الحلف الناشئ، أو التأثير في تفاعلاته.