إيمان شمس الدين – خاص الناشر |
ضمن خماسياتها القصصية الأخيرة، كتبت آلاء شمس الدين قصة من بين قصصها الكثيرة الناجحة، كانت سببًا في فوزها بجائزة القصة القصيرة.
بدأت رحلتها في هذه القصة ليس انطلاقًا من عالم الخيال، بل انطلاقًا من واقع تعيشه ولامسته بعمق، بل عاشت تفاصيله وحكاياته، وشاهدت بحاسة البصر المباشرة التي تعتبر مصدرًا ثريًّا للمعرفة، آثار هذا الحدث وتداعياته.
فهي جزء من مجتمع مقاوم قدم الكثير من التضحيات لأجل تحرير الأرض والإنسان.
وبين خطوات قلم آلاء والواقع صلة اتصال مباشر وحقيقي. فالقصص عادة تعتمد على مخيلة كاتبها الثّرية وحصيلته اللغوية، لكن في قصة “يد الله ترعاني ويد مريم”، كان الواقع يرسم لقلم الكاتبة مسار الحقيقة لا الخيال، وكان أيضًا هو من يرسم معالم الكلمات ودلالاتها وتعبيراتها، فكثيرًا ما يثير الواقع الشّجن وشجون النفس ليلهمها جمال التعبير واللفظ والدلالة.
فالعنوان اختير بدقة بين يد الله ويد مريم، مريم الاسم الذي له دلالاته الدينية في وسط متنوع طائفيًّا، إلا أنه في تنوعه يقف على مشتركات أهمّها مريم. رغم أنه اسم علم لكن دلالاته كبيرة، فمريم قديسة المسيحيين من جهة، وإحدى سيدات نساء العالمين عند المسلمين من جهة أخرى، وأم لنبي الله عيسى، أحد أعمدة الثالوث عند المسيحيين.
بعد العنوان وما يمكن أن يوحيه من دلالات عند القارئ، فإن بدء الابحار في ثنايا هذه القصة القصيرة يأخذك إلى عالم آخر، لكنه ليس بعيدًا عن نضال مريم القديسة، ولا عما واجهته مريم (ع) وما واجهته البشرية في عصرنا من وحشية، لا تختلف عن وحشية عصر مريم، وإن اختلفت الجغرافيا والزمان.
داعش هذا التنظيم الوحشي الذي لم يُبْق أينما حَلّ على حجر ولا مدر ولا بشر، ولم يحترم تراثًا ولا آثارًا ولا مساجد ولا كنائس ولا قبورًا، كأولئك الذين واجهتهم مريم في قصتها المعروفة، وهم ذاتهم اليوم وذات المنهج في مواجهتهم الإنسانية بوحشية، تكررت عبر التاريخ بوجوه وأدوات مختلفة.
عكست الكاتبة قصة جريح من جرحى المواجهة مع داعش – التنظيم الوحشي المدعوم من أمريكا والصهاينة باعترافهم – من بين مئات القصص الواقعية، لكنها قصة جمعت فيها الخيوط وردّت فيها على كل الأقاويل والشائعات التي طالت المقاومين، الذين وقفوا في وجه داعش ودافعوا عن حرمات البشر والمساجد والكنائس والقبور والآثار، بل عن حرمة أوطان من ضمنها أرض لبنان.
فالمقاوم في قصة آلاء وحبكتها إنسان قبل كل شيء، يقتل لكن دفاعًا عن النفس وليس انتقامًا أو وحشية، يواجه لكن بشرف وقيم ثابتة وإنسانية عالية، وحينما يقف أمام مفترق الطريق ليختار بين الحياة بذل أو الموت بعز وشرف، فهو لن يحيد عن خيار الموت.
ولكن ماذا لو لم يمت وخرج من المعركة جريحًا بنصف جسد؟
تخبرنا آلاء عن ذلك في قصتها “يد الله ترعاني ويد مريم”، والأدق هي ليست قصتها بل هي واقع شاهدته بعينها وقلبها وعايشته عن قرب، ورغبت في تخليده للأجيال اللاحقة، فمن لا يُخلد شهداءه وتضحيات مقاوميه تموت قصته بل تموت أمته بين الأمم.
فنحن جزء من ماض مضى، وجزء من صناعة المستقبل، الفيصل كيف نغربل هذا الماضي وكيف نكمل مسيرته بصناعة مستقبل أكثر إشراقًا ومعرفة؟
الجريح في قصة الكاتبة آلاء كان نموذجًا من بين آلاف نماذج الجرحى، لكن النموذج الأمثل، الذي قدمت آلاء من خلاله ما يواجهه هؤلاء في حياتهم اليومية، وكيف يعيشها هؤلاء الجرحى، وهل يموتون وهم أحياء.
تجيبنا آلاء ليس بشكل مباشر وإنما بحبكة مشهد يرسم العلاقة بين خطوات النادل ومراحل حياة هذا الجريح الذي فقد خطواته، فعند كل خطوة خطاها النادل نحو الجريح وابنته، كانت هذه الخطوة في مخيلة الجريح تستحضر مشهدًا مقاومًا ومشهدًا مرادفًا من حياة هذا الجريح. فالجريح المقعد وهب خطواته لكل أبناء وطنه، ليكملوا بخطواتهم حياتهم اليومية بأمان.
وبين مشهد مقاومته لداعش ومشهد وقوعه جريحًا بنصف جسد، هناك مشاهد تعكس كيف يحب المقاوم الحياة، ولكن مفهوم الحياة عنده يختلف عن مفهوم باقي نظرائه.
إن المقاوم في قلم الكاتبة، يهب الحياة حتى لو سلبت منه أو سلب منه جزء من حياته، فلو استشهد فهو يهب الحياة بأمان لأبناء ووطنه ومجتمعه، وإن جرح فهو يبقى بما تبقى له من جسده ليكمل فيها مسيرته كمقاوم، ولكنه يقاوم بالعلم وبتقديم نموذج حي لمحيطه كيف تحيا بعز حتى لو بنصف جسد، وكيف تهب حياة العزة لمن حولك.
جريح قصة آلاء يكمل حياته الجامعية وحياته الأسرية تحيطه يد الله ويد زوجته مريم، مريم المرأة التي تعكس نضال النساء في المجتمع المقاوم، وترسم مشهد المقاومة الكامل، الذي تتلاقى فيه نضالات الرجل العسكرية مع نضالات المرأة المقاومة في الساحات الثقافية والعلمية وساحات الصبر والمثابرة مع زوج أو أخ أو أب أو ابن جريح.
فالحياة لن تتوقف بخسارة بعض الجسد، بل يستطيع ما تبقى من الجسد بروح مقاومة، أن يكمل مسيرته في ساحات العلم والمعرفة، فالمقاومة ليست فقط عسكرًا بل قلم وكتاب وفكرة.
وهذا لا يتم إلا بإحاطة يد الله (الغيب) التي يمدها للجريح المُضحّي، وهو استحضار حي وحيوي لمفهوم الغيب والبعد الديني فيه، وفي حيوية هذا المفهوم في حياة الإنسان وشهوده، ويد مريم الزوجة أو الأخت أو الابنة أو الأم، وكلها مصاديق متحققة في واقع الكاتبة الخارجي.
هكذا رسمت لنا آلاء المشهد المقاوم، وردّت خلال هذا المشهد على كل من لا يُقدّر، أو لا يدرك حجم تضحيات هؤلاء المقاومين، وقيمة هذه التضحيات، فأن تسأل الجريح طالبة زميلة له في الجامعة ماذا استفدت من ذلك غير خسارتك لجزء من جسدك، فتأتي إجابة الكاتبة عن هذه التساؤلات بلسان الجربح ويد مريم التي تحيط به وترعاه.
رغم أن القصة خمس صفحات، إلا أن الكاتبة استطاعت في هذه الصفحات القليلة، أن ترسم مشهدًا غنيًّا بدلالات عميقة سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا ومفاهيميًّا، عكس لنا واقعًا وليس خيالًا، وخلد قصة حقيقية للأجيال تروي جزءًا من المواجهة، لكنه جزء ثري غني وثق تاريخًا، و أسس مفهومًا آخر للمقاومة، فآلاء الكاتبة عن المقاومة والجرحى وحكاياتهم الواقعية، هي أيضًا نموذج آخر للمقاومة في مجالات الأدب، التي تضاف إلى ساحات المقاومة بالسلاح والفكرة والعلم والمعرفة، والقلم الذي وثق القرآن أهميته وأهمية ما يخطّه في التاريخ حيث قال عز وجل: “ن والقلم وما يسطرون” (القلم، 1).