أطل وزير الصحة اللبنانية علينا مؤخرًا بقرار صادم، يفتقر لكل معايير المنطق والإنسانية، ويطال بشكل أساسي العائلات التي جاهدت وكافحت منذ بدء الأزمة لتأمين حليب أطفالها على اختلاف أعمارها، فبعد أزمة فقدان الحليب من الأسواق اللبنانية، بشّر وزير الصحة اللبنانيين بقرار رفع الدعم عنه نهائيًا.
الغرابة والصدمة في الأمر لم تكونا فقط بمضمون القرار بحد ذاته، بل إن الأسباب التي علل بها الوزير قراره كانت أشد صدمة وغرابة، فكان لا بد من تسليط الضوء على مضمون القرار وأسبابه وتداعياته على الناس عمومًا في ظل ما يعيشونه من صعوبات وتحديات معيشية واجتماعية.
قرار رفع الدعم صدر.. والسبب تهريب!
أعلن وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال، فراس الأبيض، يوم الثلاثاء الماضي، اتخاذ قرارٍ يقضي برفع الدعم كليًا عن حليب الأطفال بأنواعه كافة، وذلك نظرًا إلى عدم توافر خطة قادرة على ضبط التهريب والبيع في السوق.
ولفت، في تصريحٍ، إلى أنّ “الكميات التي كانت تصل عند الدعم كانت تكفي بلدين وعلى الأرجح كنا نشتري الحليب لبلدين بدلالة واضحة على التهريب إلى سوريا”.
أما فيما يتعلق بموقف نقابة الصيادلة من القرار، فقد أكّد نقيب الصيادلة جو سلّوم أنّه “يفضل عدم التعليق على الأمر الآن”، وأضاف “لن نتناول هذا الموضوع قبل الاطلاع على كافة حيثيات وتفاصيل القرار”.
وقبل الحديث عن رفع الدعم، لا بد من الإشارة إلى أن حليب الأطفال مفقود اليوم من الصيدليات، وأن الأهالي باتوا بانتظار رفع الدعم على أمل أن يتوفر قوت أطفالهم من بعد ذلك. ومن المتوقع أن يصل سعر مختلف أنواع الحليب التي تُعطى للرّضّع قبل عمر الـ6 أشهر بوزن 400 غ إلى 337000 ليرة. أما الانواع التي تعنى بالحالات الخاصة فقد تصل إلى 376000 ليرة. وبالنسبة للأطفال الذين تزيد أعمارهم عن الـ6 أشهر، والذين هم في المرحلة الثانية من الحليب، فباتت العبوة التي تزن 900 غ بـ776000 ليرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النقص الحاصل لم يقتصر فقط على حليب الأطفال، إذ تعاني أدوية الأمراض المستعصية وأدوية مرضى السرطان من الفقدان المستمر ويحاول المرضى اللجوء إلى الجمعيات الأهلية لتأمين هذه الأدوية في ظل انقطاعها، مع مساعي الجهات الرسمية لإيجاد حلول لتأمينها.
حين تحل المشكلة بـ “مصيبة”
عزا وزير الصحة السبب في قراره إذًا إلى “عمليات التهريب إلى سوريا”، مضيفًا أن “الكميات التي كانت تصل إلى لبنان تكفي لبلدين، وفي ذلك دلالة واضحة إلى وجود عمليات تهريب”، حسب قوله.
وبالعودة إلى الأسباب التي ذكرها الوزير، فهل هي حقًا كافية ومقنعة إلى الحد الذي يجعله يخاطر في اتخاذ قرار كهذا، وأن يحمّل الناس تداعياته الصعبة والمؤلمة؟ وإن سلمنا جدلًا أن المعطيات التي تقدم بها صحيحة، فهل تعالج الأمور بهذه الطريقة؟ وهل تحميل الناس نتائج الفساد والخراب الموجود في هذا البلد، بات قاعدة ثابتة ومريحة لهكذا طبقة حاكمة فاسدة؟ ومن قال إن الناس أساسًا قادرة على تحمل المزيد والمزيد من القهر والألم والمعاناة؟ وإن كانت الأمور مرتبطة فعلًا بقضية التهريب، فلم لا تتحمل الدولة مسؤولياتها بمعالجة هذا الأمر بدلًا من إذلال شعبها بقراراتها المجحفة؟
إن ظواهر الأمور تبدو كليًّا بهذا الشكل، الشكل الذي تريد فيه الدولة اللا مسؤولة إلقاء مسؤولياتها على كاهل الناس الغارقة في الموت والقهر، أما مضامينها فتبدو أكثر عمقًا وبشاعًة، لأنها مرتبطة حتمًا بقرار سياسي، وبالطبع فإن القرارات السياسية هي بطبيعة الحال “موجهة “، وقائمة على استهداف فئات أكثر من غيرها.
بات كل شيء في هذا البلد مرهونًا إذًا للسياسة، حياة الناس ومصيرها وكل ما دون ذلك، وإن كانت مشاعر الإنسانية والضمير الحي لم يحركا ساكنًا لدى هذه الطبقة الفاسدة، فليتوقع الناس المزيد من القرارات والأحداث والازمات التي لن يتحملها سواهم ولن يعيشها غيرهم، إذ لا خير في بلاد حارب حاكموها شعبهم وأذلوه بأغلى ما عنده، بأبنائهم وفلذات أكبادهم. وآخر دعوانا أن يزيل الله هذه الطبقة الحاكمة عاجلًا أم آجلًا، ومعها كل فاسد ومتآمر.