عرفنا منذ الصغر أن ثمة سجوناً للاحتلال الإسرائيلي محاطة بجدران شاهقة وأسلاك شائكة وحراس مدججين بالسلاح، وعلمنا أن بداخلها يقبع رجال وشيوخ وشبان فلسطينيون دافعوا عن أرضهم وشعبهم، فاعتقلهم المحتل ومارس بحقهم أصنافاً شتى من التعذيب الجسدي والنفسي. لكن مع مرور الوقت وزيادة الوعي والمعرفة أدركنا، ومنذ سنوات طويلة، أن الاعتقال لا يقتصر على أولئك البالغين، فبتنا نرى خلف القضبان أطفالاً وفتيات قُصّر. وخلال السنوات الأخيرة أصبحنا نرى سجوناً جديدة لم نعرفها من قبل ولم نتوقع يوماً افتتاحها، حتى باتت تشكل ظاهرة خطرة آخذة في الاتساع والازدياد في القدس المحتلة عنوانها: الحبس المنزلي.
فما هو الحبس المنزلي؟
الحبس المنزلي ظاهرة بدأت منذ سنوات طويلة، وأخذت تظهر جلياً بعد موجة الاحتجاجات عقب خطف الطفل محمد أبو خضير وقتله في تموز/يوليو 2014، والمشاركة الواسعة من جانب الأطفال الفلسطينيين آنذاك. واتسعت مع اندلاع انتفاضة القدس في تشرين الأول/أكتوبر 2015، وتتمثل في تحويل سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات البيوت الفلسطينية في القدس إلى سجون، ولمن؟ لأبنائهم وبناتهم القُصّر. فقد جعلت هذه السلطات الآلاف من أفراد العائلات المقدسية، رغماً عنهم، سجانين على أبنائهم القُصّر وحراساً ومراقبين على من تصدر المحاكم الإسرائيلية بحقهم حكماً بالحبس المنزلي؛ فيقيّدون حركتهم، ويتابعون نشاطاتهم، ويراقبون تحركاتهم، ويمنعونهم من تجاوز البوابة الخارجية للمنزل وتخطي حدود البيت، تنفيذاً لشروط الإفراج التي فرضتها عليهم المحاكم الإسرائيلية بموجب قرارات قضائية، وذلك تجنباً لاعتقال الكفيل أو المتعهد من أفراد الأسرة بتهمة عدم الالتزام ببنود الحكم وما وقّع عليه من اتفاق وتعهد. وتجربة الحبس المنزلي قد تتكرر لدى الأسرة وفي حياة الطفل نفسه أكثر من مرة.
ويُقصد بالحبس المنزلي احتجاز الطفل داخل البيت طوال الفترة التي تبحث فيها المحكمة الإسرائيلية في ملفه إلى حين انتهاء الإجراءات القضائية بحقه وإصدار المحكمة حكمها في قضيته، والتي قد تكون بضعة أيام أو أسابيع، وقد تمتد إلى عدة شهور، وربما تصل في بعض الأحيان إلى عام كامل أو أكثر، وهذه الفترة لا تُحتسب من فترة الحكم الفعلي الذي يصدر لاحقاً بحق الطفل. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، “الطفل المقدسي باسل عويضة مكث في الحبس المنزلي ثلاث سنوات وقبل بضعة أشهر أصدرت المحكمة الإسرائيلية بحقه حكماً بالسجن لمدة شهرين”.
ويُجبر الطفل خلال فترة الحبس المنزلي بعدم الخروج من البيت بتاتاً، وقد وُضع لبعضهم أجهزة تتبع “سوار إلكتروني” مع GBS، ونادراً ما يُسمح للطفل، في مراحل متقدمة وبعد أشهر من الحبس المنزلي، بالتوجه إلى المدرسة أو العيادة برفقة الكفيل، ذهاباً وإياباً.
معطيات إحصائية
لقد تمادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في استخدام عقوبة الحبس المنزلي، ولا سيما بحق الأطفال الفلسطينيين في القدس المحتلة ومن هم دون 14 عاماً، وجعلت من هذه العقوبة سيفاً مسلطاً على رقاب الفلسطينيين، وسياسة دائمة في تعاملها مع المقدسيين، وإجراءاً ثابتاً ضمن محاكماتها، الأمر الذي حوّلها إلى ظاهرة مقلقة ما زالت مستمرة.
وتفيد معطيات رسمية بأن الأرقام ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأربع الأخيرة، حيث أصدرت سلطات الاحتلال 2200 قرار بالحبس المنزلي بين كانون الثاني/يناير 2018 وآذار/مارس 2022، بحق أطفال قصّر، 114 طفلاً منهم كانت أعمارهم تقل عن 12 عاماً، مقارنة بنحو 228 قراراً بالحبس المنزلي في الفترة بين 2015-2017. وقد تم تحويل 70٪ من الأطفال المقدسيين الذين تم اعتقالهم خلال السنوات الأخيرة إلى الحبس المنزلي قبل البت في قضاياهم، فيما تراجعت قرارات الحبس المنزلي المفتوح عددياً خلال العامين الأخيرين، الجاري والمنصرم، ولا سيما بعد إقرار عدد من القوانين الإسرائيلية التي أجازت اعتقال الأطفال القُصّر ومن هم دون 14 عاماً، وتغليظ العقوبة بحق الأطفال والمتهمين برشق الحجارة منهم، مما منح الشرطة والمحاكم صلاحيات أوسع باستمرار اعتقال الأطفال وتمديد فترة وجودهم في السجن. أمّا الحبس المنزلي الموقت والمحدود لعدة ايام فما زال مستمراً وبشكل واسع.
استهداف إسرائيلي متصاعد للأطفال المقدسيين
ويتضمن الحبس المنزلي روايات مؤلمة في ظل الاستهداف الإسرائيلي للأطفال المقدسيين، فعلى سبيل المثال، تفيد الإحصاءات الرسمية بأن سلطات الاحتلال اعتقلت خلال العام الماضي نحو 1300 طفل فلسطيني، منهم 750 طفلاً من القدس يشكلون ما نسبته 57.7٪ من مجموع اعتقالات الأطفال. كما تم اعتقال نحو 450 طفلاً فلسطينياً منذ مطلع العام الجاري، منهم 353 طفلاً من القدس يشكلون الأغلبية العظمى وما نسبته 78.4٪ من إجمالي الأطفال الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال هذا العام. وما زالت سلطات الاحتلال تحتجز في سجونها ومعتقلاتها قرابة 170 طفلاً، بالإضافة إلى عشرات آخرين تجاوزوا سن الطفولة وهم داخل الأسر، ولعل أبرزهم الأسير أحمد مناصرة الذي يعاني أوضاعاً صحية صعبة جراء ما تعرض له من تعذيب وعزل انفرادي وضغوط نفسية.
نوعان من الحبس المنزلي
في النوع الأول يبقى الطفل في بيته وبين أفراد أسرته طوال الفترة المحددة وفقاً لقرار المحكمة إلى حين البت في قضيته.
أمّا في النوع الثاني، وهو أصعب من الأول، يُبعد الطفل عن بيت الأسرة أو الحي ومنطقة السكن، وقد يكون الإبعاد إلى خارج حدود المدينة، في حيفا وأم الفحم مثلاً، ويُلزَم الطفل بالبقاء في بيت بعيد يسكنه أحد الأصدقاء أو الأقارب، الأمر الذي يشتت العائلة ويزيد من حالة القلق لدى أفرادها. وأحياناً يكلف الأهالي مزيداً من الأعباء المالية لاضطرارهم إلى استئجار بيت بعيد عن سكناهم في حال عدم توفر بيت لأحد الأقارب لاستقبال طفلهم فترة الحبس المنزلي. كما قد يتسبب هذا الأمر في مشكلات اجتماعية بين أسرة الطفل والكفيل من الأقارب والأصدقاء، ولا سيما إذا طالت الفترة في ظل القيود التي تُفرض عليهم أثناء فترة الحبس المنزلي.
ويُشترط على الكفيل، سواء أكان أحد الوالدين أو من الأقارب والأصدقاء، أن يكون ذا سجل خال من أي مشكلات أمنية أو جنائية، وفقاً لتصنيف الاحتلال، ويتمتع بصحة تؤهله للحركة والانتقال مع الطفل إن تطلب الأمر ذلك، مما يصعّب الأمر على العائلة. ومع ذلك فإن معظم الأهالي يُفضلون الحبس المنزلي على السجن الإسرائيلي لاعتقادهم بأنه أقل ضرراً على أطفالهم.
لماذا الحبس المنزلي؟
تلجأ سلطات الاحتلال إلى الحبس المنزلي في محاولة منها للتحلل من مسؤولياتها والتخفيف من عمليات اعتقال الأطفال وعدم إبقائهم داخل سجونها نظراً إلى صغر سنهم، ولا سيما من هم دون 14 عاماً، تجنباً للانتقادات الحقوقية، وسعياً منها للحفاظ على صورتها الديمقراطية المزعومة أمام المجتمع الدولي. لكن في الجانب الآخر، فإن سياسة الحبس المنزلي هي سياسة لقهر الإنسان الفلسطيني، ونوع من الانتقام والتعذيب للأطفال المقدسيين بهدف ترويعهم وتخويفهم وجعلهم يفقدون الثقة بأفراد أسرهم، والتأثير في توجهاتهم وتوجهات أفراد العائلة ومعتقداتهم في سياق العقاب الجماعي للمقدسيين، ودفعهم نحو الالتزام بما يصدر عن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من قرارات وما تتخذه من إجراءات مشددة، وإلزام أطفالهم بها بشكل مباشر أو غير مباشر وصولاً إلى الهدف غير المعلن والمتمثل في قبولهم بالأمر الواقع ومنعهم طواعية من المشاركة بأي شكل من أشكال الاحتجاجات السلمية وأفعال المقاومة المشروعة المناهضة للمحتل ووجوده.
الآثار المرافقة للحبس المنزلي
من الآثار المرافقة للحبس المنزلي، توتر العلاقة بين الطفل وأهله نتيجة شعوره بأن أمه وأباه هما من يعتقلانه، وأن البيت الذي يفترض أن يكون موقع الشعور بالأمان أصبح هو السجن. كما يترتب على الحبس المنزلي في كثير من الأحيان حرمان الأطفال من حقهم في التعليم، وخلق أوقات فراغ طويلة لديهم لا يعرفون كيف يقضونها، وشعورهم بالضغط وممارسة الرقابة الذاتية على أنفسهم.
ويترك الحبس المنزلي آثاراً نفسية صعبة على الأطفال أنفسهم وعلى ذويهم الذين يضطرون لمراقبة طفلهم بشكل دائم ومنعه من الخروج من البيت، فيظهرون في مخيلة أطفالهم بصورة “السجان”، كما يترك أثره على مستقبل المدينة في ظل هذه الأجيال الصاعدة والناشئة. لذا فإن أغلبية الأطفال يفضلون البقاء في السجن الإسرائيلي على الخروج إلى الحبس المنزلي لما يُحدثه ذلك من مشكلات اجتماعية وتوتر وعدم استقرار في العلاقة الأسرية بين الطفل وأسرته، ويخلق العديد من المشكلات النفسية لدى أطفال الحبس المنزلي وسلوكياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ويسبب لهم الكثير من الخوف والقلق واليأس والتوتر والعصبية والتبول اللاإرادي وفقدان الثقة بالأسرة، كما يشكل خطراً على مسيرتهم التعليمية. وأحياناً تُفرض غرامات مالية على الكفيل في حال جاءت الشرطة إلى البيت ووجدت الطفل ولم تجد الكفيل معه.
ويُعتبر الحبس المنزلي إجراءً تعسفياً وغير أخلاقي ويتناقض بشكل صارخ مع قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان التي منحت الكثير من الحقوق للأطفال، وفي مقدمها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989. كما يشكل عقوبة جماعية للأسرة بمجموع أفرادها، والتي لا يمكنها ممارسة حياتها ونشاطاتها اليومية بالشكل الطبيعي، إذ تضطر إلى أن تبقى في حالة استنفار دائم حرصاً على حماية ابنها من خطر تبعات تجاوزه الأحكام القضائية والشروط المفروضة عليهم، الأمر الذي يجعل من الحبس المنزلي جريمة قلّ مثيلها.
عبد الناصر فروانة – مؤسسة الدراسات الفلسطينية