كان التقييم الذي ساد بين معظم الخبراء العسكريين عشية اندلاع الحرب في أوكرانيا هو أن روسيا ستحسم المعركة بسرعة، نظراً لتوازن القوة الذي يميل بشكل كبير مع موسكو، فلقد أرست المعركة في جورجيا (2008)، وضم شبه جزيرة القرم (2014)، والتدخل العسكري الفعال المؤثر في سوريا (2015) الفرضية الأساسية المتعلقة بتفوق القوة العسكرية الروسية والعواقب المتوقعة والحتمية للصراع بين البلدين.
ومع ذلك بعد أكثر من 100 يوم من القتال الدامي الذي فشل خلاله الجيش الروسي في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، ثبت أنه بدون استراتيجية شاملة تُشتق منها خطة تشغيلية مُلائمة ودقيقة تعتمد على قدرة وكفاءة عملياتية كافية لدى القوات المقاتلة، فلا يمكن الحسم في ساحة المعركة، إن التقاء الصورة العسكرية الروسية بأرض الواقع في ساحات المعارك الدموية في أوكرانيا قوضت قوة الردع الروسية وقوضت الهيكلية الأمنية التي سعت إلى تعزيزها.
توضح المعركة في أوكرانيا الفجوة العميقة التي كانت تتواجد فيها القيادة الروسية عشية اندلاع الحرب فيما يتعلق بحالة العدو “الكفاءة والدافعية”، والقدرة العسكرية الروسية ورد المجتمع الدولي والأثمان الباهظة المتوقعة على اقتصادها ومكانتها واستقرارها، وقد تنعكس الفجوة الواضحة بين سوء الفهم للواقع وساحة المعركة “الواقع نفسه” على المستوى التكتيكي في الإنجاز المحدود، ولكن على المستوى الاستراتيجي قد ينعكس ذلك في الفشل السياسي – المنظوماتي المنهجي طويل الأمد الذي يمكن أن يضر بالمصالح الجوهرية للأمن القومي الروسي.
الحرب في أوكرانيا في أوجها، ومن الصعب تقدير التحولات القادمة في الدراما التي تتكشف أمام أعيننا، والتي لها آثار بعيدة المدى ومباشرة على النظام والأمن العالمي والشرق أوسطي، ومع ذلك، فإن “الجيش الإسرائيلي” مطالب من الآن وفوراً باستخلاص دروس منهجية في ضوء احتمال أنه سيضطر إلى الخروج لمعركة في قطاع غزة أو لبنان ضد عدو غير متكافئ، الذي يتواجد ويتخفى داخل المدن و بين السكان ويمتلك قدرات نارية متقدمة وقوية ودقيقة.
الدرس الرئيس هو أن على القيادة السياسية والقيادة العسكرية أن تطور وتلائم نفسها وأن تدرس بشكل نقدي أي فرضية أساسية، وأن تصمم استراتيجية تتواءم مع قدرات وكفاءة “الجيش الإسرائيلي”، يمكن للفجوة بين تصور الواقع لدى المستوى السياسي والجيش أن تؤدي إلى أثمان باهظة، يتطلب عملية تزامن وتنسيق مستمر لضمان أن جميع أجزاء المنظومة الأمنية – السياسية تشترك في التصورات والمفاهيم نفسها بخصوص أهداف المعركة، ومفهوم التشغيل، وتصور اليوم الذي يلي المعركة من أجل تحسين التوازن الاستراتيجي العام.
وبالإضافة إلى ذلك، توضح المعركة في أوكرانيا أهمية ملاءمة أو تكيف مفهوم العمليات العسكرية مع الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة لإرساء تفوق حقيقي وفعلي في ساحة المعركة، وبالتالي فإن تبني ثقافة الابتكار ليس ترفاً بل ضرورة عسكرية، ويجب على القيادة العسكرية العليا أن تستثمر في التعلم والتغيير على أساس منتظم من أجل الحفاظ على تفوقها العسكري.
كان الهدف من مفهوم “التشغيل من أجل النصر” لدى “الجيش الإسرائيلي” هو مواجهة تحدي التفوق العسكري، المفهوم الذي تم صياغته في عام 2019 بقيادة رئيس الأركان أفيف كوخافي استند إلى افتراض أن القوة العسكرية لـ”الجيش الإسرائيلي” تتطلب العديد من التعديلات في ضوء التغيير المنهجي للعدو، وتطور ونشوء “جيوش الإرهاب” مثل حماس وحزب الله التي تستند إلى النيران الدقيقة والقوية، ولم يتطرق مفهوم “التشغيل من أجل النصر” إلى السؤال “ما الذي سيحسم؟”، ولكن تطرق بعمق إلى السؤال “كيف سنحسم؟”، بمعنى مناقشة نقدية للقدرات العسكرية وأساليب القتال نفسها التي ينبغي أن تعزز التفوق النوعي وزيادة الفعالية والتِأثير العسكري لـ”للجيش الإسرائيلي”.
يمكن إيجاد لمحة عن مناقشة التغيير الداخلي في “الجيش الإسرائيلي” في كتاب جديد من تأليف العميد “عيران أورتال”، قائد “مركز دادو للتفكير العسكري متعدد التخصصات” -هيئة في شعبة العمليات في “الجيش الإسرائيلي”- عنوان هذا الكتاب “الحرب قبل”، يُفصل الكتاب المناقشات والمداولات والصعوبات الحقيقية المرتبطة بعملية التغيير الداخلي في “الجيش الإسرائيلي”، وتتعلق الرسالة الرئيسية فيه بالتقييم القائل بأن الجيش يقف عند مفترق طرق حيث يجب عليه أن يتبنى نهج “ابتكار القيمة” -تغيير نموذجي- والتحول الكامل لإعادة اختراع نفسه من جديد في المنافسة الاستراتيجية المتطورة أمام أعدائه، وتتضمن هذه العملية تغييراً جوهرياً في ثلاثة أبعاد: “التصور، والتكنولوجيا، والتنظيم”، والتي ستستغل الإمكانات الموجودة وتمكن من تحقيق قفزة عسكرية حقيقية إلى الأمام.
يتطلب مفهوم “التشغيل من أجل النصر” التزامن الكامل بين المنظومة العسكرية، مع إظهار الكفاءة القتالية العالية التي ستجعل التفوق النوعي ينعكس في ساحة المعركة المستقبلية، ومع ذلك، لن يكون المفهوم فعالاً إلا إذا عبر عن قفزة حقيقية إلى الأمام في القدرات العسكرية وأساليب القتال، وفي دمج جميع الوحدات في نظام واحد، وتواجه الأنظمة الكبيرة بشكل عام والنظام العسكري على وجه الخصوص، صعوبة متأصلة في التغيير، وغالباً ما يُنظر إلى التعديلات التنظيمية – التكنولوجية أو استيعاب أسلحة جديدة بشكل غير مبرر على أنها خطوة ابتكار، لقد أوضحت المعركة في أوكرانيا أنه من الأفضل التعرف على الفجوات في الكفاءات والقدرات قبل اندلاع المعارك وليس أثناءها.
وكذلك أوضحت الحرب حاجة “الجيش الإسرائيلي” إلى تأسيس تفوق عسكري على أعدائه وخصومه الإقليميين، والحفاظ على حرية العمل في المعركة بين الحروب، وكذلك في الحرب، وفي هذا السياق، فإن إدارة سياسة حكيمة تتوافق مع المصالح في الأمن القومي أمام القوى العظمى لها أهمية استراتيجية في كلا الجانبين، وبالتالي، يعتمد التفوق العسكري على الإدارة الحكيمة لعمليات بناء القوة ومعاظمتها بشراء الأسلحة المتقدمة من الولايات المتحدة مع الحفاظ على التفوق العسكري النوعي (QME) المحدد في قانون الولايات المتحدة، وعلاوة على ذلك، فإن تعاون “إسرائيل” الاستراتيجي مع الولايات المتحدة هو عنصر أساسي في مفهوم الأمن القومي وقوتها الرادعة، وأصلاً لا ينبغي صدعه أو تقويضه.
وإلى جانب ذلك، يتطلب نشاط “الجيش الإسرائيلي” في الساحة الشمالية وجود آلية لمنع الاحتكاك مع الجيش الروسي، مع الاستثمار في العمل السياسي والأمني المستمر للحفاظ على حرية النشاط العملياتي، وفي هذا السياق، فإن للحوار المستمر مع الروس قيمة عملياتية كبيرة في المعركة لوقف التمركز العسكري لإيران ومنع عمليات نقل الأسلحة المتقدمة، لكنه قد يحدث صدعاً في العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في ظل تصعيد الحرب في أوكرانيا، ويتطلب هذا التعقيد حكمة استراتيجية في إدارة الحوار المستمر مع الروس، لكن من المهم توخي الحذر حتى لا يضر ذلك بالعلاقات الحميمة مع الولايات المتحدة.
وكذلك تبرز قضية الشرعية والوعي كقضية مركزية في الحرب في أوكرانيا والتي تؤثر على الحصانة الوطنية، وعلى الأثمان التي تُفرض على الجانب المعتدي من قبل المجتمع الدولي -نزع الشرعية وعقوبات اقتصادية واستبعاد من المنظمات والمؤتمرات الدولية والعزلة الدولية-، إن صبر المجتمع الدولي على المعركة التي يصاب فيها مدنيون أبرياء، والتي تسببت في حدوث أضرار غير متناسبة في البنية التحتية والأنظمة المدنية تضاءل بشكل كبير في أعقاب أهوال الحرب في أوكرانيا، وعلى “إسرائيل” أن تفهم أن ميدان الشرعية والوعي هو ساحة معركة بكل ما تعنيه الكلمة، ينشط فيها في الروتين والطوارئ قوى سياسية ومنظمات دولية ومدنية هدفها تشويه سمعة “إسرائيل” ونزع الشرعية عنها وإلحاق الضرر بحرية العمل العسكري، والتسبب لها بأضرار سياسية واسعة النطاق وطويلة الأمد، مطلوب من “إسرائيل” أن تستثمر في جهد الشرعية كجهد وطني شامل يجمع بين القدرات الاستخباراتية والدبلوماسية والسياسية لكبح الانجراف في الرأي العام العالمي الذي قد يؤثر على حرية العمل العسكري وعلى مكانتها في الساحة الدولية.
“فكر أولاً ثم تصرف”، حدد اللواء “تامير يدعي” -قائد القوات البرية- في مؤتمر معهد السياسات والاستراتيجية أن المهمة الرئيسية لـ”الجيش الإسرائيلي” هي كسب حرب قصيرة مع إظهار التفوق العسكري، ونقل المعركة إلى الجانب الآخر، مع تحييد خطر إطلاق النار وتقليل الضرر الذي يلحق بـ”الجيش الإسرائيلي” والجبهة الداخلية، إلى جانب تعزيز الردع على أساس القدرات الحقيقية والكفاءة المهنية العالية، ومع ذلك وبدون استراتيجية شاملة تسعى إلى تحسين التوازن الاستراتيجي لـ”إسرائيل” وتقوية الردع، وتعريف وضع النهاية أو وقت المعركة المفضل على أساس التنسيق الكامل للتوقعات بين المستويين السياسي والعسكري، فإن القدرة على الحسم او الانتصار في المعركة المقبلة قد يكون موضع شك، والأثمان على المستوى الاستراتيجي العملياتي والتكتيكي ستكون باهظة جداً.
اللواء (احتياط) عاموس جلعاد، والدكتور موشيه ألبو – معهد السياسات والاستراتيجيات
ترجمة الهدهد