بعد عدة أيام من تبادل الضربات المؤلمة مع حزب الله وإيران وكذلك مع حماس في غزة، قُتل عدة مئات في الجبهة الداخلية في “إسرائيل”، أما في لبنان فقد كان هناك الآلاف في منطقة الضاحية في بيروت حيث تم تدمير عشرات من الأبنية الشاهقة، وكذلك تضررت أيضاً الكثير من المباني في “تل أبيب”، وتلقت حيفا آلاف الصواريخ. لقد تم إلحاق ضرر كبير بقدرات القيادة والسيطرة لدى حزب الله، وقد حشد “الجيش الإسرائيلي” بالفعل الكثير من القوات على طول الحدود الشمالية.
بدأت مناورة “الجيش الإسرائيلي” -عربات النار- بضربةٍ موجعةٍ، صاروخ إيراني أصاب المباني الحكومية في القدس ودمرها، ومع الضربة ظهرت المعضلة المألوفة: هل يجب التوقف الآن ولملمة الجراح، والأمل بأن تؤدي الضربات المتبادلة إلى عدة سنوات من الهدوء؟ أم نرفع من الثمن الذي نريد جبايته والدخول البري إلى لبنان؟ إذا كان الأمر كذلك فإلى أين سنصل فيه وإلى كم من الوقت سيستمر؟ بينما ستستمر الجبهة الداخلية “الإسرائيلية” في تلقي الضربات حتى اليوم الأخير من القتال، الآراء في الغرفة كانت منقسمة بالتساوي بين مؤيدي المناورة البرية ومعارضيها، حيث يتبادر إلى ذهن الجميع ذكرى صور طوابير مدرعات “الجيش الإسرائيلي” التي دخلت لبنان قبل 40 عاماً بالضبط، والتي ربما سيُطلب منها اليوم السير على نفس الطرق أيضاً، لكن العدو اليوم ليس هو نفس العدو سابقاً، وحزب الله بُني وجُهز جيداً لسفك دماء القوات “الإسرائيلية” المناوِرة في لبنان، وأُضيفت إلى هذه الذاكرة أيضاً أحدث صورة لطوابير المدرعات الروسية في أوكرانيا وقد تم إخضاعها وهزيمتها بالأسلحة المضادة للدبابات سهلة التشغيل، والحوامات توجه إليها نيران المدفعية الدقيقة.
في الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا فرح مؤيدو القتال البري الذين كانوا على يقين من أن هذا هو الدليل على أن هذا ليس معجزة. مثل كثيرين كنت مخطئاً أيضاً -في تلك الأيام- بالاعتقاد أن الجيش الروسي سيتغلب بسرعة على القوات الأوكرانية الأضعف من ناحية العدد، ومع تعمق القوات الروسية في الوحل الأوكراني بدأ معارضو المناورة البرية بالصراخ فرحاً –بسخرية-: “لقد عادت الدبابات بالفعل للقتال وبشكلٍ كبيرٍ، ولكن هذه المرة فقط عادت كأهداف”.
بعد ثلاثة أشهر من القتال في أوكرانيا والذي لا يزال مستمراً، ما زلنا بحاجةٍ إلى قدرٍ كبيرٍ من الحذر عندما يتعلق الأمر باستخلاص الدروس منه، وبالتأكيد تلك الدروس التي تهمنا أو لها صلة بنا، أولاً لأن الحرب لم تنته بعد، وثانياً ليست كل مواجهةٍ بين الجيوش يمكن تشبيهها أو إسقاطها على المواجهات التي قد يخوضها “الجيش الإسرائيلي”.
من المغري مقارنة “الجيش لإسرائيلي” بجالوت الروسي المدرع والثقيل، وحزب الله بداوود الأوكراني الضعيف الذي تمكن من مهاجمته بمقلاع، “فالجيش الإسرائيلي” يتفوق على الرغم من عيوبه على الجيش الروسي بعدة مراتب من حيث الحجم، سواء في طريقة استخدامه للقوة البرية المشتركة، أو في نوعية الاستخبارات أو في التقنيات التي يعمل بها، ناهيك عن سلاح الجو “الإسرائيلي” وقدراته.
ساحة المعركة أيضاً تختلف اختلافاً جوهرياً عن ميداننا، فأوكرانيا مساحة شاسعة، بمسافات شاسعة حيث توجد مناطق مفتوحة واسعة للمناورة البرية، وفي المقابل في لبنان، وبالتأكيد في غزة، لا توجد مناطق مفتوحة، ولا تكاد توجد نقطة في لبنان يمكن لمركبة قتالية أن تتحرك فيها دون أن تُرى من نافذة منزل ما.
والتحفظ الأخير والكبير المهم الذي يتطلب الحذر عند المقارنة هو علامة الاستفهام الكبيرة المحيطة بغياب سلاح الجو الروسي عن القتال، حتى الآن لم يتم سماع أي تفسير معقول لسبب عدم استخدام روسيا لقواتها الجوية الضخمة مما قد يغير صورة الحرب.
التفاف بحري
يتابع “الجيش الإسرائيلي” باهتمامٍ كبيرٍ النقاش حول التغيير الأساسي في سلاح مشاة البحرية الأمريكية، والذي بدأ قبل الحرب في أوكرانيا وأصبح الآن أكثر وضوحاً، فمنذ حوالي عامين يقود قائد “المارينز” تغييراً عميقاً، والهدف من هذا التغيير هو تحويل مشاة البحرية من سلاحٍ قائمٍ على منصات (دبابات، ومدفعية، وسفن، وطائرات) إلى سلاحٍ يتخلى عن المنصات لصالح أسلحةٍ خفيفةٍ ودقيقةٍ مثل الصواريخ المضادة للدروع والصواريخ المضادة للسفن والطائرات بكافة أنواعها.
التاريخ العسكري مشبع بالجدل بين الوسط والوسط المضاد، وهناك تنافرٌ بينهما، في عام 1973 كان لدينا مقولة مفادها أن “الصاروخ يخضع جناح الطائرة، ولكن في عام 1982 أثبتت الطائرة قدرتها على التغلب على الصاروخ، لم يملِ أو يفرض هذا الجدل قط مقامرة مطلقة من جانب واحد، كما يفعل “المارينز” الآن الذين تخلوا عن كل دباباتهم.
لكن خطوة “المارينز” تمس جدلية عسكرية أعمق وهي: هل التفوق اليوم في يد المهاجم أم يميل إلى جانب المدافع؟ على عكس اسمِه، تبنى “الجيش الإسرائيلي” وحافظ على روح الهجوم على مر السنين، على أساس أن “إسرائيل” لا تمتلك الموارد اللازمة للاستمرار في دفاعٍ واسعٍ لوقتٍ طويلٍ، وأن مواجهاتنا نحسمها من خلال هجومٍ سريعٍ.
في السنوات الأربعين الماضية حدثت فجوةٌ بين القيم والأداء، ففي معظم المواجهات امتنع “الجيش الإسرائيلي” عن شن مناورات هجوميةٍ عميقةٍ، واكتفى بنيران مكثفةٍ وحركاتٍ دفاعيةٍ هجوميةٍ، مثل المناورة لــ 4 كيلومترات داخل لبنان عام 2006، أو مناورة كيلومتر ونصف في غزة في عملية “الجرف الصامد”.
وعلى مر السنين تآكلت أيضاً قدرة “الجيش الإسرائيلي” على المناورة في العمق، ومن المشكوك فيه ما إذا كانت هناك قوة في الجيش اليوم يمكنها معرفة كيفية الدعم والحفاظ على مناورةٍ خطيةٍ لعشرات الكيلومترات داخل لبنان بأسلوب 1982.
وصف لي أحد كبار الضباط ذلك بطريقة بسيطة ورائعة وقال: “على مدى سنوات قمنا بوضع خطط عسكرية ثنائية الأبعاد، إما صغيرة الحجم جداً أو كبيرة الحجم جداً، وإما إطلاق نار لبضعة أيام مع غزة أو احتلال كامل لقطاع غزة، أو تبادل ضربات مع حزب الله أو مناورة لبضعة أسابيع حتى الوصول الى بيروت، بطبيعة الحال ابتعدت القيادة السياسية عن الحجم الكبير جداً وفضلت الصغير جداً، والتي كانت تجرنا رغم ذلك إلى المناورة البرية السطحية والبطيئة جداً والتي تراوح مكانها، والآن يحاول الجيش الإسرائيلي أيضاً إيجاد درجة متوسطة وهي مناورة محدودة يصاحبها ضربات نارية تزيد من الإنجاز، وبثمن مقبول”.
هذه هي المعضلة التي واجهت القادة في مناورة عربات النار في بداية الأسبوع: هل يجب أن نكتفي بالضربات النارية ونأمل أن يتحقق الهدوء الذي جلبته حرب لبنان الثانية؟ هل يجب أن ننطلق إلى مناورة محدودة ضد قوات رضوان -قوات النخبة التابعة لحزب الله شمالي الحدود- أم نبدأ في تحريك القوات إلى عمق لبنان أيضاً رغم كل التكاليف المترتبة على ذلك؟ ولقد اختاروا المناورة في مناطق قوات رضوان وما وراءها في جنوب لبنان، ومن المشكوك فيه بأن يسمح أي مستوى سياسي بذلك وربما يكونون على حق.
الأسبوع المقبل سيزيدون من المقامرة أو الرهان، وسيقومون بإنزال القوات البرية جواً في قبرص لمحاكاة الإنزال في عمق أراضي العدو، وكشفت “إسرائيل اليوم” هذا الأسبوع أن “الجيش الإسرائيلي” قد اشترى سفينتيْ إنزال كبيرتين من الولايات المتحدة للقيام بالتفاف بحري، وهنا أيضاً يجب أن يُشعِل القتالُ في البحر الأسود لدينا أضواءَ التحذير، فالصاروخان اللذان أغرقا بارجة القيادة الروسية “موسكو” هما أيضاً دلالة على التغير في التوازن بين المنصات والصواريخ الدقيقة.
سفينتا الإنزال اللتان تشتريهما “إسرائيل” يمكنهما أن تحملا مئات المقاتلين والمعدات الثقيلة، وأمامهما هناك ستجدان حزب الله مجهزاً بأفضل الصواريخ المضادة للسفن من صنع روسيا وإيران، إن غرق مثل هذه السفينة بمئات المقاتلين عليها هو كارثة ستجد “إسرائيل” صعوبةً في احتوائها، لذا فإن استخدام مثل هذا الإنزال يتطلب ثقة كاملة من “الجيش الإسرائيلي” في قدرته على الدفاع عنها.
على عكس قوات “المارينز”، لا يتمتع “الجيش الإسرائيلي” برفاهية بناء قوة تعتمد فقط على منصات أو أسلحة دقيقة، ولكنه يحتاج إلى إيجاد نقطة التوازن الصحيحة. هناك فرق كبير بيننا وبين الأمريكيين: إذا كان قائد المارينز الجنرال “ديفيد بيرغر” مخطئاً في رهانه، ويثبت أن المارينز قوة غير فعالة، لا يزال خلفهم الجيش الأمريكي الضخم والأسطول والقوات الجوية، ونحن لدينا فقط “الجيش الإسرائيلي” ولا يوجد شيء خلفه.
معاريف – الون بن دفيد
الهدهد