لطالما مرّت على الديانات السماوية من يحاول تفسيرها تبعًا لهواه، ويستغلها لمصالحه، ويوهم الناس أنه قد أحسن تفسير الديانة لهم، وأنه يرى ببصير “حكمته” ما لا يرون، ويقتفي من أثر ما لا يدركون، وأنَّ الله، تعالى عن ذلك سبحانه، وهبه مُلك الديانة في الأرض، وكذلك فعلوا الحاخامات في “إسرائيل”.
الحاخامات في دولة الاحتلال، مفسِّرو الشريعة اليهودية ومعلِّموها، كاتبون رئيسيون في أُسُس دولة الاستعمار السياسية من خلال إصدارهم الفتاوى، وتأسيسهم الأحزاب والجماعات السياسية، ما أكسبهم القوة والحضور والتأثير الواضح على الرأي العام للمستوطنين وصانعي القرار داخل مؤسسة الاحتلال الرسمية، في وقت يتقاضى جميع الحاخامات رواتبهم إما من حكومة الاحتلال وإما أن مؤسساتهم الدينية والتعليمية تحظى بدعم وتمويل كبيرَين من وزارات الحكومة.
وفي مدن الداخل المحتل والمستوطنات ينتشر الحاخامات، بحيث لكل مدينة ومستوطنة حاخامها الخاص، كما يُفرز في دولة الاحتلال حاخام أكبر لجيشها، وتبقى الدار الحاخامية الكبرى هي الأبرز، يمثلها حاخامان أكبران: الأول يمثل اليهود الغربيين (الأشكيناز)، والثاني يمثل اليهود الشرقيين (السفارديم)، ورغم وجود اختلاف بسيط بين الحاخام والآخر في التفكير والمذهب، إلا أنهم اجتمعوا جميعًا على محاربة الفلسطيني واحتلاله، وأباحوا الدم الفلسطيني، وأرجعوا ذلك إلى فتاوى خاصة ادّعوا وجودها في دين موسى عليه السلام.
الحاخامات والحياة السياسية
ممّا لا يدعو للشكّ أن للحاخامات يدٌ تطول عالم السياسة والمال والاجتماع خلف القناع الديني، فالحاخامات في “إسرائيل” يمكنهم التأثير في الانتخابات البرلمانية من خلال سيطرتهم على العديد من الأحزاب، مثل “شاس” و”يهودوت هتوراة” و”البيت اليهودي” وغيرها؛ ويستفيدون من وجودهم في الكنيست خلف هذه الأحزاب في سنّ قوانين الدولة اليهودية، من خلال طرح المشاريع والتصويت عليها وفق رغبتهم.
في إطار ذلك، أوعز الحاخام أهارون يهودا عام 2014 لأحزاب الحريدية بعدم الانضمام إلى حكومة رئيس وزراء الاحتلال السابق بنيامين نتيناهو، بعد انسحاب حزبَي “يوجد مستقبل” و”الحركة” منها، ما جعل حلّ البرلمان والتوجُّه لانتخابات جديدة الحل الوحيد للأزمة التي عصفت بحكومة نتنياهو آنذاك.
وفي هذا الوضع، بات الممثلون السياسيون للجاليات اليهودية الدينية، بما في ذلك المستوطنين، العمود الفقري للحكومات الائتلافية، فهم صانعو المُلك ويمكنهم الحصول على تنازلات هائلة من الأحزاب الأخرى، وقد استدرك ذلك السياسيون في حكومة الاحتلال، وأصبح لزامًا ضمنيًّا على من يريد أن يصل إلى المناصب الرفيعة والهامة في الحكومة أن يتبارك برضى ودعم الحاخامات.
والتفتت إلى هذا الأمر وزيرة داخلية الاحتلال إيليت شاكيد، حيث عملت على جلب المزيد من القضاة “المتدينين” بشكل علني إلى النظام القانوني، بما في ذلك المحكمة العليا، مثل نوام سوهلبرغ وديفيد مينتز، وهما قاضيان يعيشان علانية في مستوطنات الضفة الغربية، فضلًا عن تعيينها عددًا من القضاة بالتطرف الديني ذاته في محاكم الاحتلال.
اللافت في الأمر أن “إسرائيل” التي تشهد قضايا فساد ضخمة تطال الحكومة والجيش، لم يكن الحاخامات ببعيد عنها، إذ شهد بعض الحاخامات، مثل كيونا مستغر وإلياهو دورون، قضايا فساد كالتزوير والاحتيال والسرقة، إلا أن قضاء الاحتلال لم يستطع إدانتهم، خوفًا من موجات غضب عارمة قد تطيح بالحكومة والقضاء، حيث إن الحاخامات بالنسبة إلى المستوطنين خط أحمر.
الأمر لا يتوقف عند حدود السياسة فحسب، بل يمتد إلى جيش الاحتلال، إذ كشفت دراسة أعدّها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة “بار آيلان” العبرية، المعروفة بتوجهاتها الدينية، حول مدى انصياع المجندين المتدينين لأوامر الحاخامات؛ عن أن أكثر من 90% ممن يصفون أنفسهم بأنهم متدينون، يرون أنه لو تعارضت الخطوات التي تتّخذها الحكومة الإسرائيلية مع رأي الحاخامات، فإن الأَولى هو تطبيق رأي الحاخامات، وأكّد أكثر من 95% من الجنود المتدينين أنه لا يمكنهم الانصياع لأوامر عسكرية تصدر لهم، دون أن تكون متّسقة مع الفتاوي الدينية التي يصدرها الحاخامات والسلطات الدينية.
ويوضح نائب رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال السابق دان هارئيل، أن أتباع التيار الديني الصهيوني يقودون معظم الكتائب والسرايا في ألوية المشاة المختارة، وهي المظليون و”هناحل” و”جفعاتي” و”جولاني”، إلى جانب احتكارهم قيادة وحدات الصفوة بصورة مطلقة، وهي “سييرت متكال”، التي تعدّ أهم الوحدات نخبويةً في جيش الاحتلال الإسرائيلي، و”إيغوز” و”شمشون” و”دوخيفات”، فضلًا عن سيطرتهم على الوحدة المختارة للشرطة المعروفة بـ”يسام”.
هجرة المستوطنين تحت عباءة الدين
إضافة إلى ذلك، لعبَ الحاخامات دورًا في استقطاب يهود العالم للهجرة إلى الأراضي المحتلة تحت مسمى الدين اليهودي، كما فعل الحاخام يهودا شيلوم حين أسّسَ عام 1871 جمعية لاستعمار الأراضي في القدس، ودعا يهود العالم للاستيطان فيها، مبررًا ذلك بأن “فلسطين هي السبيل الوحيد أمام اليهود، ذلك أن الهجرة إليها تعني التوبة، والتوبة لا تعني فقط العودة إلى الله، وإنما العودة إلى الأرض أيضًا، والبحث عن صهيون”.
وعلى السياق ذاته، وكنهج موحّد للحاخامات، يوجّه الحاخام يكتئيل بيش رسالة إلى حكومته ويهود العالم، فيقول: “ستدخل الدول الغربية في عصر مليء بالتحديات وستحدث مآسٍ كبيرة تسقط حكومات وتتسبّب في معاناة إنسانية كبيرة، ولكن في حال رغبنا بالتقليل من هذه المآسي علينا الرضوخ لإرادة الرب، وهناك طريق نجاة واحدة أمام يهود الشتات تتمثل في المجيء إلى “إسرائيل”، فهذه هي اللحظة المناسبة”.
وعلى خُطى الحكومة يسير الحاخامات، والحججُ في استقدام المستوطنين تتشابه، فتحت عباءة الدين اليهودي والترويج لمظلوميته منذ عهد الهولوكوست، ينادي الحاخامات بـ”حماية” يهود العالم الذين يتعرضون لمعاداة السامية وفق قولهم، وأن الحاجة باتت ملحّة الآن دون سواها لأن تستقبل الأرض المستعمَرة مستعمِرين جُددًا وحاقدين أكثر.
وفي الوقت الذي كانت فيه أبرز عمليات الموساد في استقدام المستوطنين تتمّ من خلال تفجيرات وافتعال أزمات في مناطق وجودهم، فإنه من الحريّ التوقف قليلًا على معالم هذه العمليات، إذ إنه وفي أعقاب التفجيرات والأزمات وُجدت الأسلحة والذخائر مخزّنة داخل كُنس اليهود، كما حدث في تفجيرات بغداد في خمسينيات القرن الماضي، ما يدفع إلى سؤال برسم الإجابة: أي دور يلعبه الحاخامات في افتعال الأزمات، وكيف لجماعة تدعو إلى حماية الدم اليهودي أن تريقَ الدم ذاته لخدمة الاستعمار؟
تبدو “إرادة الرب” التي ينادي بها الحاخامات بـ”إسرائيل” غريبة، إذ التفتت إلى يهود العالم في دولهم البعيدة، لكنها غضّت الطرف عن مجازر بحقّ الإنسانية وجرائم حرب مارسها الاحتلال بكل مؤسساته تجاه الشعب الفلسطيني، بل كان للحاخامات فيها الصوت المحرِّض والداعي إلى إراقة مزيد من الدماء.
بكل بساطة، يصدر حاخام مستوطنة “بيت إيل”، المقامة على أراضي مدينة البيرة، قرارًا بإغلاق أحد أهم الطرق الحيوية بالنسبة إلى الفلسطينيين، ويأمر أتباعه من المستوطنين بالنزول إلى الشارع، ورمي الحجارة على سيارات الفلسطينيين، والاعتداء عليها.
هذا المشهد ليس غريبًا أو خارجًا عن المألوف، إذ لطالما كان للحاخامات اليد العليا في زيادة العنف والعنصرية ضد الفلسطينيين، وتغذية المستوطنين بالحقد المتخفّي تحت أوامر الدين، وتطويع الفتاوي الدينية لأجل ذلك، ليزيدوا فوق عنصرية الصهيونية و”إسرائيل” عنصرية ملطّخة باسم إحدى الديانات السماوية.
الحاخامات: اقتل الفلسطيني كل ما سنحت الفرصة
يقول الكاتب والصحفي البريطاني جوناثان كوك، بعد مباركة حاخامات قتل المستوطنين للفلسطينية عائشة الرابي، من خلال إلقاء الحجارة على سيارتها، إنه “لا يوجد بلد آخر بإمكان رجل دين رفيع أن يطالب أتباعه أن يتحولوا إلى “محاربين”، ويقوم بمباركة شبّان قتلوا امرأة فقط لأنها من ديانة أخرى، فقط في “إسرائيل” يحدث شيء كهذا، ويفلت رجل الدين من العقاب”.
يصف كوك دور الحاخامات في تعزيز العنصرية والإرهاب ضد الفلسطينيين: “كان كبار الحاخامات قد أيّدوا كتابًا مرعبًا، وهو كتاب توراة الملك، الذي كتبه اثنان من حاخامات المستوطنين يحثّ اليهود على معاملة غير اليهود، ولا سيما الفلسطينيين، بلا رحمة… إنه يمنح بركة الله للإرهاب اليهودي، ليس فقط ضد الفلسطينيين الذين يحاولون مقاومة طردهم من قبل المستوطنين، بل ضد جميع الفلسطينيين، حتى الأطفال، على مبدأ أنه “من الواضح أنهم سيكبرون ليضربونا””.
وعند الحديث عن فتاوى الحاخامات في قتل الفلسطينيين، تأتي إلى الواجهة صورة الحاخام الأكثر تأثيرًا في دولة الاحتلال عوافاديا يوسف، الزعيم الروحي لحزب “شاس” لليهود الشرقيين ومؤسِّسه، حين أطلَّ في خطبة بثّها الإعلام العبري عام 2004، قال فيها إن “اليهودي عندما يقتل مسلمًا فكأنما قتل ثعبانًا أو دودة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كلًّا من الثعبان أو الدودة خطر على البشر، لهذا فإن التخلُّص من المسلمين مثل التخلُّص من الديدان، أمر طبيعي أن يحدث”.
ساهم عوافاديا يوسف وغيره من الحاخامات في تعزيز النظرة الدونية للفلسطينيين والعرب، ودعوا إلى تفوق العرق اليهودي بالمصطلحات نفسها التي استخدمتها النازية الألمانية في الهولوكوست، ورأوا “أن السادة هم اليهود والعبيد هم العرب، والأفضل بالنسبة إليهم أن يكونوا عبيدًا لليهود، فهناك شعوب في محيطنا لديها خلل وراثي، والعرب يحبون أن يكونوا تحت الاحتلال، فهم لا يستطيعون إدارة الدول، وغير قادرين على فعل أي شيء، نحن نؤمن بنظرية التفوق العرقي”، وذلك وفق ما أفتاه الحاخام أليعزر كشتئيل.
وبينما تمنع “إسرائيل” كتب المقاومة الفلسطينية وتلاحق من يطبعها، نشر الحاخام يوسف أليتسور، رئيس مدرسة دينية، كتابًا عام 2009 صدر بعدّة طبعات، يدعو إلى قتل العرب، واعتمد على ما أسماه بـ”الشريعة اليهودية” التي تسمح بقتل أطفال الفلسطينيين الرضّع قبل التقدم بالنمو و”أن يصبحوا أشرارًا مثل آبائهم”.
في أثناء ذلك، يحظى الحاخامات بدعم من رؤساء حكومة الاحتلال، فقد مدح رئيس وزراء الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو الحاخام ليئور -الذي يعدّ أبرز المرجعيات الدينية لحزب “البيت اليهودي”- بعد شرعنته جريمة إحراق عائلة دوابشة، التي دلّت التحقيقات مع عناصر التنظيم الإرهابي “شارة الثمن” المسؤول عن تنفيذ الجريمة، على أن القاسم المشترك بينهم هو انتماؤهم جميعًا إلى مدارس تديرها مرجعيات حاخامية بارزة، ووصفه بأنه “الكتيبة التي تقود شعب “إسرائيل””.
وفي أغسطس/ آب 2015، نشرت صحيفة “هآرتس” أن نتنياهو وافق على إلقاء كلمة في مؤتمر نظّمه الحاخام إسحاق غيزنبيرغ، الذي أصدر مطلع عام 2013 ما يمكن وصفه بالمسوِّغ الفقهي الذي تعمل على أساسه مجموعات “شارة الثمن” الإرهابية، التي نفّذت عشرات الاعتداءات في المدن الفلسطينية، وأحرقت عددًا كبيرًا من المساجد والكنائس في الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948.
لاحقًا، في عام 2019، منحت وزارة تعليم الاحتلال جائزة التوراة والحكمة لإسحاق غيزنبيرغ، حاخام المدرسة الدينية في مستوطنة “يتسهار”، الذي أفتى سابقًا بأن “كل فلسطيني، صغيرًا أو كبيرًا، يشكّل خطرًا على مستقبل “إسرائيل”، وينبغي قتلهم جميعًا بلا رحمة، ولا يجوز التفريق بين الرجال والنساء والأطفال، فجميعهم عدو فعلي أو محتمَل”.
على إثر ذلك، تزايدت صباحات الفلسطينيين المملوءة بالاعتداءات، إذ بدأ المستوطنون بشكل مستمر بالاعتداء والهجوم على ممتلكات الفلسطينيين في الأراضي القريبة من المستوطنات، وخطّ عبارات عنصرية على جدران سياراتهم وبيوتهم، وإذا ما قرر الفلسطينيون الدفاع عن أنفسهم وجدوا رصاص جيش الاحتلال في انتظارهم.
اقتحامات الأقصى: الحاخام في الواجهة
عام 2020، تزامن قدوم يوم عرفة لدى المسلمين مع ما يسمّى بـ”خراب الهيكل” لدى الاحتلال الإسرائيلي، وبينما كان يستعدّ المقدسيون لإحياء يومهم وصيامهم في باحات المسجد الأقصى، أفتى الحاخام يهودا كرويزر، مفتي جماعات الهيكل المزعوم، بوجوب تدنيس المستوطنين للمسجد الأقصى، حتى لو اضطروا التخلي عن “فريضة” صيام ذلك اليوم.
هذه الاقتحامات والتدنيسات المتكررة للمسجد الأقصى، والتي يشنّها المستوطنون في فترات متقاربة، وتشتدّ وتيرتها في المناسبات الدينية، تكون مدفوعة بالحاخامات، بل الأصحّ قولًا هو أن الحاخامات هم من يتصدّرون واجهة الاقتحام ويحدِّدون مسيرة تدنيسهم، ومن حولهم شرطة الاحتلال مدجّجة بسلاحها لحمايتهم، والتي تفضي إلى مواجهات بين مرابطي الأقصى والمستوطنين.
أما العام الأكثر سخونة في صعيد الاقتحامات ومسيرة الأعلام كان عام 2021، إذ أدّت استفزازات المستوطنين والحاخامات إلى معركة “سيف القدس” واشتعال كامل أراضي فلسطين التاريخية، في تأكيد على عدم المساس بالقدس.
وفي العام ذاته، وفي سابقة خطيرة، أصدرت محكمة الصلح الإسرائيلية قرارها حول ما أسمته بـ”الصلاة الصامتة” داخل المسجد الأقصى، بأنها “لا تستدعي التجريم”، ما زاد من وتيرة الصلوات التلمودية بالمسجد مقارنة مع السنوات الماضية.
الأكيد في الأمر أن الحاخامات ما كانوا ليواصلوا تطرفهم وعنصريتهم ضد الفلسطينيين لولا عدم توفر البيئة الخصبة لذلك، فـ”إسرائيل” الدولة الاستعمارية بأحزابها اليمينة واليسارية تقوم على أساس الصهيونية المبنية على دم العربي ومعاناته، والشواهد في وقائع المجريات تشير إلى أن تنامي سيطرة الحاخامات على مفاصل صنع القرار واتخاذه في كيان الاحتلال، واستيلاءهم وتلاميذهم على مراكز سياسية رئيسية وتنفيذية، تزيد من منسوب جرائم الاحتلال، حكومةً وجيشًا ومستوطنين، ضد الفلسطينيين.
نداء بسومي – نون بوست