يستعد النظام الدولي لاحتمال أن تبدأ روسيا – لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية – معركة واسعة في أوروبا مع الاستعداد لمواجهة الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وقد حشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوة عسكرية ضخمة حول أوكرانيا للإشارة إلى أن الكرملين يرى في التغيير الموالي للغرب في الجمهورية السوفيتية السابقة تهديدًا خطيرًا يجب إيقافه، حتى لو كلف ذلك حرباً.
يضاف إلى ذلك رغبة بوتين في وقف توسع حلف الناتو إلى الشرق الذي سيكون لا محالة على حساب مصالح روسيا في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي؛ مما يشكل تهديدًا متزايدًا لأمنها. سواء نفذت روسيا تهديها بالغزو أو توصل الناتو معها إلى اتفاقيات؛ من شأنها الآن إزالة تهديد الهجوم الروسي ضد أوكرانيا مما لا شك فيه فإن الأحداث المحيطة بأزمة أوكرانيا خلقت تحديات للنظام الدولي الحالي القائم منذ حوالي ثلاثة عقود وسيكون لها عواقب مباشرة وغير مباشرة فورية وعلى المدى الطويل أيضًا على الشرق الأوسط.
حتى قبل إطلاق الطلقة الأولى، كان من الواضح أن دولًا في الشرق الأوسط و”إسرائيل” من ضمنها معنية بالحفاظ على موقف محايد قدر الإمكان وتجنب الحاجة إلى اتخاذ موقف بشأن الصراع في أوروبا الشرقية واختيار الوقوف مع طرف. فمن ناحية، على الرغم من الفهم بأن الولايات المتحدة تقلص من تدخلها في الشرق الأوسط لا تزال معظم دول المنطقة ترى في العلاقات الجيدة مع الإدارة الأمريكية ركيزة أساسية في تصورها للأمن، ومن ناحية أخرى فهي معنية أيضًا بالحفاظ على العلاقة مع روسيا التي تعمقت في السنوات الأخيرة، وتشمل الآن توسيع العلاقات العسكرية والترويج لصفقات لشراء أسلحة روسية. هذا على الرغم من تورط روسيا العميق في الحرب في سوريا.
من السابق لأوانه تقييم الآثار العالمية الكاملة للأزمة في أوروبا، ومن الواضح أن التطورات العسكرية والسياسية بما في ذلك الترتيبات اللاحقة، سيكون لها أيضًا تأثير على المخاطر والفرص التي تواجه دول الشرق الأوسط، على الرغم من عدم امتلاكها القدرة على منع التدهور العسكري، إلا أنها ستضطر إلى صياغة سياسة والتصرف بسرعة بناء عليها لتقليل المخاطر المحتملة إلى الحد الأدنى قدر الإمكان.
بالنسبة “لإسرائيل”، فإن التأثيرات الرئيسية للأزمة ستركز على ثلاثة مستويات: وهي الساحة الدولية والإقليمية ، والساحة الأقرب لها وجارتها – الساحة الشمالية:
الساحة الدولية
كلما استمرت الأزمة وتعقدت، وخاصة إذا اندلعت الحرب واستمرت، من المتوقع من الرئيس بايدن والإدارة الأمريكية اللذين يسعيان إلى ترسيخ وإثبات مكانة الولايات المتحدة الرائدة في النظام الدولي أن يطلبا من الدول الحليفة اختيار مع أي طرف تقف علانية ودعم التحركات الأمريكية، ومن بين ذلك المشاركة في الضغوطات التي ستُمارس على روسيا وأن تلتزم بقواعد العقوبات المفروضة عليها.
في مثل هذه الظروف من المشكوك فيه جدا ما إذا كانت الإدارة الأمريكية ستصغي وتبدي تفهمًا لمحاولات “إسرائيل” التفسير والتوضيح بأن المصالح “الإسرائيلية” تتطلب أيضا إبقاء القنوات مفتوحة مع موسكو. ومن المرجح أيضًا أنه في ضوء التحفظات من جانب دول الشرق الأوسط في إظهار التضامن الكامل مع مواقف الولايات المتحدة وتحركاتها، أن تحاسب الإدارة الأمريكية تلك الدول التي ستحاول البقاء محايدة، وقد تؤدي الأزمة في أوروبا الشرقية في الواقع إلى إثبات أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة كمورد بديل للطاقة الروسية.
يبدو أن الإدارة الأمريكية تتوقع بالفعل رؤية خطوات في هذا الاتجاه. وتنعكس مساعيها لإيجاد بديل لقضية الطاقة من روسيا مع دولة قطر التي تم الإعلان عنها خلال زيارة قام بها مؤخراً الشيخ تميم بن حمد خليفة آل ثاني إلى واشنطن على أنها “حليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج الناتو”. (Major Non-Nato ally) توجه مماثل من قبل الإدارة الأمريكية تجاه السعودية قوبل حتى الآن بتجاهل، ولكن من المحتمل أن يحاول السعوديون لاحقًا الاستفادة من المطالب الأمريكية منهم في سياق سوق الطاقة لتحسين العلاقات مع الإدارة الأمريكية.
ومن بدائل توريد الغاز من روسيا إلى أوروبا هي حقول الغاز في شرق البحر المتوسط التي تتقاسمها مصر وقبرص و”إسرائيل”. و ستجد كل من تل أبيب والقاهرة صعوبة في مقاومة طلب الولايات المتحدة لتزويد أوروبا بالغاز، وبالتالي المساعدة في إغلاق إمدادات الغاز من روسيا عبر خطوط أنابيبNordstream-1/2.-1.
الساحة الإقليمية
يمكن أن تؤثر الأزمة في أوروبا الشرقية خاصة إذا تحولت إلى معركة عسكرية بشكل مباشر على استقرار بعض البلدان في الشرق الأوسط، وذلك لأنها تعتمد بشكل كبير على إمدادات المنتجات الزراعية بشكل عام والقمح بشكل خاص من أوكرانيا وروسيا.
على سبيل المثال، تشتري مصر وهي أحد المشترين الرئيسيين للقمح في العالم معظم الحبوب من روسيا وأوكرانيا، وهي أيضًا المورد الرئيسي للذرة بالنسبة لها، من المرجح أن استمرار الأزمة في قضية أوكرانيا وعلاقتها بالغرب، وخاصة إذا تطورت القضية إلى حصار على حركة المرور في البحر الأسود أن تحد بشكل كبير من القدرة على إمداد المنتجات الزراعية عن طريقه إلى دول الشرق الأوسط.
في مثل هذا الواقع، ستزداد فرص عودة الأنظمة في المنطقة إلى مواجهة احتجاجات شعبية متباعدة ستجعلها عاجزة عن الاستجابة للمطالب العامة.
والدول التي يرجح أن يتزعزع استقرارها كنتيجة غير مباشرة للأزمة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي هي الأضعف في المنطقة وهي: سوريا ولبنان وليبيا والعراق.
وفي ظل هذه الظروف التي تشهد أزمة دولية حادة، ستزداد المخاوف بشأن استقرار الأردن ومصر، وغني عن البيان أن عدم الاستقرار في الدول المجاورة يضيف طبقة من التحديات الأمنية التي تواجه “إسرائيل”.
ومن المرجح أن “إسرائيل” نفسها ستضطر أيضا إلى التعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة وانعكاساتها على تكلفة المعيشة. التحدي الآخر الذي يواجهها والذي سينبع من تركيز الولايات المتحدة على أوروبا، هو تسريع الاتجاه المتمثل: في نأي أمريكا بنفسها عن الشرق الأوسط والحد من الدعم العسكري من قبل الولايات المتحدة لحلفائها في المنطقة.
“إسرائيل” في مواجهة الجبهة الشمالية
يبدو احتمال أن تستغل روسيا ساحة العمل في سوريا لتوضح للولايات المتحدة أن الإمكانيات لديها لتحويل ساحات أخرى بالإضافة إلى أوروبا الشرقية إلى ساحات متفجرة قد تحقق عمليا.
في الآونة الأخيرة تضع موسكو الكثير من العراقيل أمام إدارة المعركة “الإسرائيلية” ضد التمركز العسكري الإيراني في سوريا وجهود طهران لنقل الأسلحة عبر الأراضي السورية إلى حزب الله في لبنان.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية خلال شهر كانون الثاني (يناير) أن طائرات روسية وسورية قامت بدورية مشتركة في سماء هضبة الجولان وأن موسكو ودمشق تعتزمان الاستمرار في مثل هذه النشاطات.
وكانت هذه رسالة واضحة “لإسرائيل” مفادها أن لدى روسيا القدرة إذا أرادت أن تضع عراقيل أمام “إسرائيل” في صراعها ضد المحور الإيراني كما يتم التعبير عنه في الأراضي السورية.
يجب أن يُنظر إلى ذلك أيضًا على أنه خطوة تهدف إلى التوضيح لتل أبيب أن الوقوف إلى جانب طرف في الأزمة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي ينطوي على مخاطر بالنسبة لها، وكرسالة إلى واشنطن تهدف إلى التوضيح أن لدى موسكو أدوات ضغط إضافية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى ما قاله قائد القيادة الوسطى الأمريكية المعين خلال شهادته أمام الكونجرس عندما قال إنه إذا اجتاحت روسيا أوكرانيا فلن تتردد في أن تصبح جهة مفسدة و مقوضة للاستقرار في سوريا”.
وبالتالي فإن الرد الأمريكي على هجوم روسي على أوكرانيا والذي سينعكس في عزلة على روسيا وتعميق العقوبات المفروضة عليها؛ من المرجح أن يكون له عواقب سلبية على “إسرائيل”.
توصيات رئيسية “لإسرائيل”
• اختيار دول الشرق الأوسط بما في ذلك “إسرائيل” الحياد يشير إلى التغيير في مكانة الولايات المتحدة في المنطقة وفي ميزان القوى الإقليمي.
ومع ذلك، فإن العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، التي تُعد درعًا دبلوماسيًا أساسيًا “لإسرائيل”، والالتزام الأمريكي المعلن بأمنها، لا يتركان خيارًا “لإسرائيل” – حتى لو كانت تفضل الجلوس على الحياد – إلا التأييد الكامل وبدون أدنى شك ولا تردد لموقف واشنطن.
إذا امتنعت “إسرائيل” عن الاصطفاف في معسكر الولايات المتحدة وأوروبا فإن التوترات ستزداد وستتحول أيضًا إلى مطلب أمريكي لتقليص العلاقة بين “إسرائيل” والصين.
بالإضافة إلى ذلك لن تتمكن تل أبيب من رفض طلب من واشنطن لتطوير بديل لتزويد أوروبا بالغاز بدلاً من روسيا.
• من الضروري صياغة رد على جميع أنواع العواقب المحتملة على “إسرائيل” في حال تطورت نسخة جديدة من “الحرب الباردة” بين الولايات المتحدة وروسيا.
في هذا السياق، من المهم الحفاظ على المشاورات الجارية مع واشنطن ونقل رسالة من اليوم واضحة ومُلزمة، وإن كانت سرية، مفادها: أن إسرائيل ستصطف علنًا عندما تكون هناك حاجة إلى الجانب الذي تقوده الولايات المتحدة – أيضًا على حساب العلاقات مع موسكو.
• المفاوضات في فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووي تتقدم ومن المرجح أن يتم التوقيع على الاتفاق في الأيام القليلة المقبلة. وتُنصح “إسرائيل بالامتناع قدر الإمكان عن الدخول في مواجهة “وجهاً لوجه” مع الإدارة الأمريكية بالتأكيد ليس علانية، حتى لو تم توقيع اتفاقية جديدة مع إيران في المستقبل القريب.
• يجب أن نستمر في هذه المرحلة في الحفاظ على قنوات الحوار مع موسكو – أيضًا فيما يتعلق بالحاجة الضرورية المستمرة لتجنب الاحتكاك العسكري في الجبهة الشمالية، ولكن في نفس الوقت التحضير لسيناريو يتم فيه قطع الاتصال والتنسيق العملياتي بين “إسرائيل” وروسيا، و يواجه الجيش “الإسرائيلي” تحديات متزايدة في الجبهة الشمالية.
• يجب الآن تجنب بيع الأسلحة لأوكرانيا والدول المحيطة بروسيا، وخاصة الأسلحة المضادة للدبابات، بما في ذلك الاستمرار في منع توريد بطاريات القبة الحديدية من الجيش الأمريكي إلى أوكرانيا.
• يجب على “إسرائيل” أن توسع جهودها لإقامة علاقاتها مع دول المنطقة وترسيخها، وإرسال رسائل إيجابية لها؛ من أجل الاستعداد لاحتمال حدوث اضطرابات داخلية فيها؛ ومنعاً لتراجع عملية التطبيع . وسيكون في ذلك ايضا رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أنه ليس إسرائيل على الجانب الصحيح فحسب ، بل إنها تعمل على إنشاء جبهة إقليمية تدعم سياساتها.
• يجب الترحيب بالتقارب التركي المتجدد. تركيا دولة مهمة في الناتو ولها رؤية واسعة، إن تحسين العلاقات معها سيعزز مكانة “إسرائيل” الإستراتيجية وأصولها في المنطقة.
ترجمة الهدهد/ معهد أبحاث الأمن القومي