تجنيد النساء في الجيش الإسرائيلي..

شهد العقد المنصرم نقاشاً متزايداً حول “جيش النساء”، وحول مشاركة النساء اليهوديات في الجيش الإسرائيلي، وقد تسبّب الأمر مراراً بأزمة بين التيارات العلمانية والدينية، كقضية “تجنيد الحريديم” وإن كان بدرجة أقل، وقد وصل الأمر لأن اعتبر بعض الحاخامات أن تجنيد النساء اليهوديات في الجيش، بمن في ذلك المتديّنات، يُغضب الله ويُخالف تعاليم التوراة. في المقابل ظهرت خلال هذه السنوات، استمراراً لظاهرة برزت خلال العقود الماضية، العديد من الأصوات الإسرائيلية، وتحديداً من الحركات النسوية، التي تُطالب بتحقيق “المساواة بين الجنسين” في الجيش، استناداً إلى ما نصّ عليه تعديل قانون “الخدمة العسكرية” وتعديل 16 (أ) للعام 2000، الذي يُنادي بتحقيق المساواة، وذلك في أعقاب قرار المحكمة العليا المعروف بقرار أليس ميلر، والذي سنتحدّث عنه أدناه. جدير بالذكر أن الخدمة في الجيش، وعلى الرغم من أهمية العامل الديني-السياسي- الأيديولوجي لليهود، إلّا أنها لا تقتصر على ذلك فقط، فقد شكّل الجيش أيضاً بوتقة صهر في إسرائيل، وتأدية الخدمة العسكرية مسؤولة بشكلٍ كبير عن تحديد مكانة الأفراد، والفُرص المستقبلية لهم، وهذا تجلّى في الامتيازات التي يحصل عليها خريجو الخدمة العسكرية، ويتقلّد خريجوها مناصب رفيعة في القطاع الخاص، ومؤخراً في قطاع الشركات التكنولوجية والرقمية.
تتناول هذه المساهمة قضية تجنيد النساء بين الإشكالية الدينية، وبين المحدّدات العسكرية التي تفرضها طبيعة العسكرتارية في إسرائيل.

تجنيد النساء في الجيش الإسرائيلي
انخرطت النساء اليهوديات في العصابات الصهيونية قبل العام 1948، عام إعلان “إقامة دولة إسرائيل”، ولاحقاً، إعلان “إقامة جيش الدفاع الإسرائيلي” بموجب مرسوم خاص. فقد التحق العديد منهنّ في العصابات الصهيونية (الهاغاناه؛ البلماح؛ الإيتسل وليحي)، منذ الإعلان عن إقامة القوة النسائية- جيش النساء، بموجب مرسوم إعلان إقامة “جيش الدفاع الإسرائيلي” بتاريخ 26 أيار 1948، وهي عملية دمج للعصابات الصهيونية، بعد أيام من إعلان إقامة دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني بعد عمليات التطهير العرقي التي شهدتها المدن والبلدات الفلسطينية، وقد تم اتخاذ قرار بتجنيد النساء في الجيش الإسرائيلي، لكن في وظائف ومهام تُعد مساعدة، وتصنّف على أنها “تقليدية/ محافظة”، وتجنّدت بموجب هذا القرار قرابة 70% من النساء في إسرائيل. حتى سبعينيات القرن المنصرم، أُغلقت في وجه النساء في الجيش قرابة 44 وظيفة ومنصباً في الجيش، لاحقاً، وتحديداً منذ نهاية السبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، طرأ تحول على إمكانية تقلّد النساء وظائف ومناصب معينة في الجيش، والانخراط في وحدات وكتائب معينة، إلى جانب القيام بمهام كانت محظورة في السابق، وقد جاء هذا التحول في إطار محاولة التغلّب على معضلة نقص العنصر البشري في وحدات محدّدة، كالوحدات القتالية، التسليح، القيادة، الاتصالات وتجهيز الطيران وغيرها.

منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد قرار المحكمة العليا لأليس ميلر (1995)، بدأت مفاهيم المساواة والحقوق تتسلّل بشكل جدّي للجيش، حيث علَت مُطالبات بضرورة وجود مساواة رسمية بين الجنسين، قادتها حراكات نسوية رفضت الذرائع والمبرّرات، البيروقراطية والاقتصادية، التي كانت تقدّمها الدولة لتبرير حالة “عدم المساواة” بين الجنسين في الجيش. في العام 2001، اتخذ شاؤول موفاز، رئيس هيئة أركان الجيش في ذلك الوقت، قراراً بحلّ “القوة النسائية” كقسم مسؤول عن كل ما يخصّ النساء في الجيش، في المقابل استُحدث منصب مستشارة رئيس هيئة الأركان لشؤون النساء لتقوم بالإشراف على المهام التي كانت موكلة إليها.1

تجنيد النساء من وجهة نظر دينية
من ناحية دينية، فإن تجنيد النساء اليهوديات في الجيش يُعدّ قضية إشكالية، لذلك، خاض الحاخامات صراعاً ضد تجنيد النساء في الجيش على مدار العقود الماضية، وتحديداً الجناح الحردلي منهم، وهو صراع لم يتوقّف منذ إقامة الجيش وفرض التجنيد الإجباري، فقد سارت الأمور خلال العقود الماضية على إعفاء الفتيات المتديّنات من الخدمة العسكرية، بعد قيام الفتاة ذاتها بالتصريح أمام لجنة خاصة بالتزامها بعقيدتها الدينية، الأمر الذي يُعفيها من التجنيد الإجباري، لكن قانون الخدمة العسكرية الإجباري (1953)، نصّ على أن الفتيات المعفيات من الخدمة المدنية مُلزمات بتقديم “الخدمة الوطنية” بدلاً من الخدمة العسكرية، وقد لاقى ذلك مُعارضة شديدة من الحاخامات. لاحقاً وصل النقاش حول هذه القضية إلى ذروته، وتحديداً في العام 2018، بمهاجمة الحاخامات، وتحديداً التيار الحردلي، الجيش علناً، ومطالبة رئيس هيئة الأركان بالاستقالة بعد أن اشتدّ النقاش حول هذه القضية في معرض النقاش الدائر حول قانون “تجنيد الحريديم”، مُعلنين في الوقت ذاته أن الجيش يخوض حرباً على المتدينين، تتجلّى أبرز معالمها في ازدياد عدد النساء المتدينات اللاتي يلتحقن بالجيش (الخدمة العسكرية)، وفي ظاهرة تجنيد النساء بشكلٍ عام، فذلك يؤدّي إلى المساس بـ”العائلة اليهودية”؛ إذ أن المكان الأنسب للمرأة، بحسب ما تنصّ عليه التوراة، هو المنزل، ومهامها هي أن تقوم بالإنجاب ورعاية الأطفال.2 ويستند أنصار التيار الرافض لتجنيد النساء في الجيش إلى تفسير الحاخام موسى بن ميمون (1138-1204) والحاخام دافيد بن سولومون بن أبي زيمرا (1497-1573)، حيث تتلخّص تفسيراتهما لتجنيد النساء في أنه “يحقّ” للنساء “التجنّد” في الجيش- المشاركة في الحرب (بشكل أوضح عند أبي زيمرا)، لكن لتزويد الرجال بالماء والطعام، وتقديم الخدمات وليس في القتال، على الإطلاق.3

قرار المحكمة العليا في قضية أليس ميلر- 1995

في العام 1995 قدّمت المجنّدة في الجيش الإسرائيلي أليس ميلر التماساً للمحكمة العليا ضدّ وزير الدفاع وآخرين، بمساعدة جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، مضمونه أن موقف الدولة الرسمي لمنع النساء من الحصول على تدريبات الطيران يُعدّ عنصرية وتمييزاً على أساس جندري، ويُعارض قانون أساس كرامة الإنسان وحرّيته (1992). في المقابل، أصدرت المحكمة العليا قراراً يقضي بأن لا مبرّر للتمييز بين الرجال والنساء في الجيش، ولا مبرّر لحرمان النساء من الحصول على تدريبات الطيران كذلك. وقد اعتُبر هذا القرار من أهم القرارات التي أكّدت على المساواة بين الجنسين في الجيش منذ إقامته.4 رغم ذلك، ظلّت مسألة التحاق النساء بالمهام القتالية في القوات الجوية قضية إشكالية أيضاً، إذ رفض الجيش، وكذلك المحكمة العليا، أكثر من مرة، طلبات تقدّمت بهنّ مجنّدات في الجيش للالتحاق بالمهام القتالية في “سلاح الطيران” التابع للجيش (قضية يعارا ستولبيرغ مثلاً 2001).5 منذ ذلك الحين، ظلّت قضية المساواة بين الجنسين تتفاعل في الأوساط النسوية، والأكاديمية في إسرائيل، وفي العام 2007، تم تشكيل لجنة بإيعاز من رئيس وحدة الموارد البشرية في ذلك الوقت إليعازر شتيرن، ترأسها رئيس وحدة القوة البشرية في الجيش سابقاً يهودا سيغف، وبعضوية ضبّاط في الجيش (رجال ونساء)، وأكاديميين وباحثين، بهدف تحسين وضع النساء في الجيش خلال العقد المقبل (2007-2017)، وتحقيق مساواة فعلية في الفرص وتقلّد المناصب وغيرها، وقد أصدرت اللجنة توصياتها بالفعل، لكن لم يتم تنفيذ غالبيتها حتى الآن.

العسكرتاريا في الجيش: العنصر البشري أهم من الاعتبارات الدينية!
يتذرّع المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل بأن إصراره على تجنيد النساء نابع من دافع تحقيق المساواة بين الجنسين، في المقابل شكّلت قضية المساواة بين الجنسين محور اهتمام وحديث معظم النساء، والحراكات النسوية، داخل الجيش، أو حتى لتلك اللاتي أنهين الخدمة العسكرية، وهذا الأمر يقودنا إلى القول بأن تجنيد النساء لا يعدو كونه حلاًّ، أو مخرجاً لأزمة ناتجة عن النقص العددي في الجيش، تسبّبت بها ظاهرة عزوف أو “تخلّف” بعض القطاعات اليهودية كالحريديم، منذ إقامة الدولة، عن تأدية الخدمة العسكرية لأسباب دينية، وبين تهرّب قطاعات واسعة من الشباب من الخدمة، يُساعدهم في ذلك البند الذي يُعفي الشباب المتدينين بحجّة التفرّغ لدراسة التوراة وتأدية الصلوات، إلى جانب إعفاء قانون الخدمة الإجبارية (1953) نساء الأقليات التي يُشارك فيها الرجال في الخدمة العسكرية، كالطائفتين الدرزية والشركسية، من الخدمة.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن إسرائيل سعت منذ البداية لأن يكون مجتمعها مجتمعاً إسبارطياً، غالبية أفراد هذا المجتمع، إما جيش حالي، أو جيش احتياط، يتم استدعاؤه في أوقات الحروب، التي تشنّها إسرائيل بين الفينة والأخرى على الفلسطينيين والدول العربية، وهذا الأمر نابع من ظروف وطبيعة وجودها، غير الطبيعي، في محيط رافض ومُناهض لها، على الرغم من التحولات التي طرأت في السنوات الأخيرة على علاقتها مع بعض الدول العربية، من هنا تحتلّ فكرة تجنيد النساء في الجيش أهمية كُبرى، وتزداد خلال السنوات الأخيرة، وهي تُعبّر ليس عن النزعة العسكرتارية لإسرائيل التي وضعت الجيش في مكانة مرموقة داخل هرم التصوّرات الاجتماعية للأفراد، وتُكسبه قدسية كبيرة حتى بات يُعرف بـ “البقرة المقدّسة”- فحسب، ولا عن رغبتها وتصوّرها لمجتمعها العسكري، أو الإسبارطي فقط، بل عن الحاجة الماسّة أيضاً لتغطية النقص في العنصر البشري في الوحدات المختلفة، ولا سيّما في الوحدات القتالية، على الرغم من التقارير العديدة التي صدرت في الفترة الأخيرة، التي تحدّثت عن أن دمج النساء في الوحدات الميدانية القتالية يؤثّر في فعالية الجيش، وفي قدرته على “الانتصار”.

في المقابل، لا يُمكن اعتبار مُطالبات الحاخامات نابعة من اعتبارات دينية بحتة؛ وإنما قد تكون نابعة من اعتبارات اقتصادية أيضاً، حيث أن خروج النساء اليهوديات، وتحديداً المتدينات، لتأدية الخدمة العسكرية، سيقود بالضرورة إلى إكمال مسيرتهن، أسوةً بزميلاتهن العلمانيات، كالتعليم الأكاديمي والعمل والتوظيف، الأمر الذي يرى فيه بعض الحاخامات تعدّياً على أوامر التوراة للمرأة، وتجاوزاً لها، الأمر الذي يُعيد طرح هذه القضية بين الفينة والأخرى في النقاش العام بين التيارات الدينية والعلمانية في إسرائيل، لا سيّما في الفترة التي يعود فيها النقاش حول قضية “تجنيد الحريديم في الجيش” للمشهد العام، كما شاهدنا ذلك أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، لا سيّما في الفترات التي سبقت الجولات الانتخابية.

إجمالاً، ستظلّ قضية تجنيد النساء أحد الموضوعات الرئيسة في أزمة الدين والدولة في إسرائيل، وواحدة من مركّباتها- باعتبارها لا تنفصل عن قضية “تجنيد الحريديم” الإشكالية- والتي لم تصل فيها المركّبات السياسية في إسرائيل بعد إلى حالة إجماع تنظُم التعامل معها وفق اعتبارات ومحدّدات واضحة ومُتفق عليها.

1خبر، الإعلان رسمياً عن حلّ جيش النساء، غلوبس، 01.08.2001، https://bit.ly/3GZBWpr.
2هيئة التحرير، النساء: العودة إلى المطبخ، المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، 11.02.2018، https://bit.ly/3oX3sh1.
3الحاخام شموئيل شبيرا، ما هو موقف الشريعة من تجنيد المتديّنات، Ynet- الموقع الإلكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت، 12.11.2014، https://bit.ly/34OkrLY.
4خبر، قبول النساء لدروس الطيران، جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، 01.02.2000، https://bit.ly/3H2S8Gy.
5طال روزنر، المحكمة العليا ترفض التماس مجنّدة للاشتراك في وحدة جوية مقاتلة، Ynet- الموقع الإلكتروني لصحيفة يديعوت أحرونوت، 28.02.2005، https://bit.ly/34OourE.

عبد القادر بدوي – مدار سنتر

اساسياسرائيلالجيش الاسرائيلي