كقوة عسكرية محتلة، وفي نظرته إلى الفلسطيني كعدوّ أوحد، لم يكن الاحتلال الإسرائيلي بمعزل عن مقولة الجنرال العسكري الصيني سون تزو: “من الأفضل مهاجمة تفكير العدو، بدلًا من البدء بشنِّ الهجوم على مدنه المحصّنة”؛ فخلال سعيه إلى إقامة دولته قُبيل عام 1948 وحتى اللحظة، يمارس الاحتلال حربًا نفسية ودعاية أو “بروباغاندا” في عدوانه على الفلسطيني، سواء خفتت أصوات طائراته ودباباته أم كانت الحرب العسكرية في أوجها.
منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، كانت انطلاقة الحرب النفسية التي بدأ يشنها الصهاينة حول العالم بهدف توطين أنفسهم في فلسطين، وتهجير سكّانها الأصليين منها، وقد لعبوا على وتر “اليهود المظلومين” كحجّةٍ إنسانية تبرِّر دخولهم الأراضي الفلسطينية، وقد حاول مؤسِّس الصهيونية ثيودور هيرتزل أن يبدأ حربه النفسية بتغطية الدعم الدولي له، حين قال في المؤتمر: “الصهيونية تسعى إلى إنشاء منزل للشعب اليهودي في فلسطين مؤمن بموجب القانون العام”.
“أبادوا القرية المجاورة.. ارحلوا”
في إطار التحضير لاحتلال الأرض الفلسطينية مع رحيل الانتداب البريطاني عنها بموجب وعد بلفور، أنشأ اليهود عصابات الهاغانا والبلماخ والأرغون، كقوة نخبة جبّارة لا تُقهَر، وبدأ ببثِّ إشاعة أخبار قوتها وانتصاراتها، في سبيل بثِّ الرعب والتقليل والتحقير من القوة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني والجيوش العربية.
وقبيل النكبة، شرعت هذه العصابات -لا سيما الهاغانا- في فعل مجازر ضد القرى الفلسطينية، وبينما هي تبيد القرية تحقيقًا لسياسة التهجير (الترانسفير)، كانت تحرص على إشاعة أخبار المجازر وعدد الشهداء الفلسطينيين والطرق التي قتلوهم بها، وإلى جانب إشاعة أخبار الإبادة العرقية كوسيلة للتهجير، عمدت العصابات الصهيونية إلى اغتصاب النساء والفتيات، وإشاعة القصص حول الاعتداء عليهن، ما دفع سكان القرى المجاورة إلى الرحيل عن قريتهم خوفًا من العصابة القاتلة التي ستبيدهم وتعتدي على نسائهن.
ولعلّ مجزرة دير ياسين في أبريل/ نيسان 1948، قبل شهر واحد من النكبة الفلسطينية، من أهم الشواهد على هذه السياسة، إذ عمدت العصابات الصهيونية خلالها إلى أبشع طرق القتل الجماعي والتطهير العرقي، وكان الهدف الأساسي منها هو إخافة القرى المجاورة، وهو ما تحقّق حينما أخلى سكان القرى المجاورة كقرية عين كارم قريتهم قبل وصول المجزرة إليهم.
لاحقًا، تحول بعضٌ من إشاعة القوة الصهيونية إلى حقيقة مع ضعف الجيوش العربية وخيانة حكّامها حينما أهابوا بإيقاف المقاومة الفلسطينية وترك الأمر للجيوش العربية لدحر العصابات الصهيونية، وقد كانت الجيوش العربية منهزمة داخليًّا وسلّمت الأراضي الفلسطينية دون مقاومة تليق بعددها وعدّتها، ومع توالي أخبار هزائم الجيوش العربية، زاد الخوف والانكسار في قلوب الفلسطينيين اللاجئين من القوة الصهيونية الكاسرة.
بعد النكبة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي لأراضي 1948، وما أسموه “قيام دولة إسرائيل” في 15 مايو/ أيار 1948، وحّد الاحتلال عصاباته الصهيونية في جيش منظَّم، وما لبث أن روّج لهذا الجيش كقوة لا تُقهَر، وأنه من أقوى جيوش العالم بسلاحه وعدّته، وفي باله حينها أن يجعل العربي والفلسطيني المقاوم يفكر عدة مرات قبل أن يواجه هذا الجيش.
العقاب الجماعي للعمل الفردي
بعد نكبة فلسطين، ورؤية احتلالية إلى كسب التأييد الدولي لـ”دولة إسرائيل”، بدأ الاحتلال بالتخفيف من وطأة مجازره الجماعية تحت مظلة “دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان”، وانتقلت من افتعال مجزرة جماعية لإخافة الفلسطينيين، إلى التنكيل الفردي أمام أعينهم، في سبيل الضغط النفسي عليهم وزعزعة إيمانهم بقدرتهم على محاربة هذا “الوحش الإسرائيلي”.
في أثناء الانتفاضات والهبّات المختلفة التي أشعلها الفلسطيني ضد محتله وحتى اللحظة، يقوم الاحتلال باستهداف شخص بعينه، والترويج لسبب اعتقاله أو قتله على أنه “مخرّب وإرهابي”، وأن كلّ من يمسّ أمن “إسرائيل” تنتظره أشد العقوبات والأحكام الاعتقالية المؤبدة؛ ومتوهمًا في خلق “حنق شعبي فلسطيني تجاه هذا المقاوم”، حرصَ الاحتلال على إنعاش الحياة الاقتصادية للفلسطينيين، وجعل قوت يومهم وأعمالهم وتجارتهم شغلهم اليومي.
في عام 2006، نشرت صحيفة “معاريف” العبرية مقالًا تحت عنوان “الحرب النفسية الإسرائيلية ضد العرب – محطات وأساليب”، تطرّقت خلاله إلى الأساليب التي تستخدمها قوات الاحتلال، التي ترتكز على فكرة ما أسمته بـ”كيّ الوعي” الذي لجأ إليه رئيس هيئة الأركان السابق مع بداية الانتفاضة الثانية، موشيه يعالون.
وبحسب الصحيفة فإن الاحتلال أقام وحدة جديدة أسماها “مركز عمليات الوعي”، وخصّصَ لها الموارد المالية والبشرية بهدف إنشاء عمليات حرب نفسية متطورة، و”استغلال التصدعات والانقسامات في المجتمع الفلسطيني والطريقة التي يفهم وفقها نشاط الجيش الإسرائيلي، من أجل تسريع سيرورات ترغب بها “إسرائيل””.
كوسيلة عقابية على العمليات الفدائية، نشطت قوات الاحتلال في الفترة الأخيرة منذ هبّة القدس عام 2015 بهدم بيوت الفدائيين الشهداء والأسرى، وكانت شرارة هذا الأسلوب القديم الجديد هدم منزل الشهيد مهند الحلبي باكورة هبّة القدس حينها، كما يعمد الاحتلال في حربه النفسية إلى اعتقال ذوي المقاومين والمطاردين للضغط عليهم، كان آخرها ما فعلته قبل أيام حينما اعتقلت أسماء عاصي زوجة القسامي المطارد أحمد زهران وأفراد أسرته، قبل أن تغتاله صباح الأحد 26 سبتمبر/ أيلول 2021.
فضلًا عن ذلك، يمارس الاحتلال تعذيبًا نفسيًّا بحق الأسرى الفلسطينيين، من خلال إخضاعهم للتحقيق العسكري وحرمانهم من النوم وتهديدهم باعتقال عائلتهم والتضييق عليهم، ففي أعقاب اعتقال الأسيرة المحرَّرة ميس أبو غوش عام 2019، تعرّضت للتحقيق العسكري لمدة 3 أيام حرمها المحققون النوم حينها، واعتقلوا شقيقها الصغير واستدعوا والدها للمخابرات الإسرائيلية.
إلى جانب ذلك، يعمل في الداخل المحتل ما يقارب 170 ألف عامل فلسطيني، يمارس الاحتلال نحوهم الضغوطات النفسية والعقوبات الجماعية كردٍّ على أي عملية مقاومة فدائية، من خلال إغلاق الحواجز بين الضفة والداخل المحتل، وتوقيف تصاريحهم لفترة مؤقتة، وسحب تصاريح أقرباء أي مقاوم بشكل دائم.
حربٌ من نوع آخر في غزة
في ظلِّ تمركُز المقاومة العسكرية في قطاع غزة المحاصر، تتجلّى الحرب النفسية بين الاحتلال وسكان القطاع في كل تفاصيل حياتهم، فيعمل الاحتلال جاهدًا على سحب الحاضنة الشعبية للمقاومة من القطاع من خلال التضييق على معيشة أهله وحصاره، وإرجاع سبب حصاره إلى المقاومة الفلسطينية التي تهدِّد أمن الكيان، وينشر الاحتلال عبر صفحاته الناطقة بالعربية مقولات وعبارات مثل “نحن نريد لأهل غزة العيش بسلام، لكن المخربين هناك هم من يمنعون ذلك”.
وبينما يعاني القطاع من ضعف في القطاع الصحّي في ظل حصار مصري إسرائيلي عليه، ووسط تضييق السلطة الفلسطينية ماليًّا على المؤسسات الحكومية هناك، يضطر الفلسطينيون في القطاع أحيانًا إلى استصدار تصاريح علاج في المستشفيات في القدس المحتلة، وفور العزم باستصدار التصاريح التي قد تنتهي في كثير من الأحيان بالرفض إلى حين الوصول إلى معبر بيت حانون “إيريز” للدخول إلى الأراضي المحتلة، يشرع الاحتلال بعملية ضغط نفسي على المريض وأهله، ويخيّره بين المرور مقابل معلومات أمنية عن المقاومة في القطاع أو الرجوع وتعريض حياة المريض إلى الخطر.
وخلال الحرب الأخيرة في مايو/ أيار 2021، شنَّ الاحتلال حربًا نفسية على أهل القطاع إلى جانب الصواريخ من مقاتلاته الحربية، وذلك من خلال إشاعة سرّبها إلى قناة “سي إن إن” عن عزمه دخول القطاع بريًّا، ما يعني وفق الذاكرة الفلسطينية المجازر الوحشية التي سيرتكبها كما فعل في حي التفاح وخزاعة والشجاعية من قبل، وفي أعقاب هذه الإشاعة زاد التوتر في القطاع قبل أن يتبين لاحقًا زيفها.
على الرغم من حربه النفسية، ومحاولة الاحتلال التضييق على الفلسطينيين كجماعة ردًّا على عملية فردية في الضفة الغربية المحتلة أو حتى على احتضان المقاومة في قطاع غزة المحاصر، لم يفلح الاحتلال خلال 73 عامًا من الوصول إلى مراده، وبقيَ الشارع الفلسطيني منتميًا إلى مقاومته، بل استطاع أن يدحض أسطورة “الجيش الذي لا يُقهَر” في كثير من معاركه.
نداء بسومي – نون بوست