تُعدّ الحرب الإدراكية واحدة من أبرز أدوات الصراع المعاصر التي تجمع بين التأثير النفسي والإعلامي بهدف تحقيق تفوّق إستراتيجي على العدو. ومع تعاظم دور الإعلام والتكنولوجيا في النزاعات الحديثة، باتت السيطرة على تدفق المعلومات واحتكار الروايات جزءاً أساسياً من الخطط العسكرية والسياسية للدول.
في هذا السياق، شكّلت حرب تموز 2006 نقطة تحوّل في فهم إسرائيل لأهمية المجال الإدراكي، حيث أظهرت تلك الحرب حجم التحديات التي واجهتها إسرائيل في التأثير في الرأي العام المحلي والدولي، وفي التصدي لرواية المقاومة التي نجحت في كشف نقاط ضعف العدو وتغيير قواعد الاشتباك.
اعتماداً على ما تناولته مراكز الدراسات الإسرائيلية والأميركية، يمكن تحليل الدروس التي استخلصها العدو من هذه الحرب، وكيف سعى إلى تطوير إستراتيجياته الإعلامية والنفسية للتعامل مع المقاومة. كما يمكن تسليط الضوء على مفهوم «الهيمنة المعلوماتية» الذي اعتبرته إسرائيل شرطاً ضرورياً في حروبها المستقبلية، وما يعنيه هذا المفهوم من سيطرة شاملة على تدفق المعلومات واحتكار الرواية الرسمية.
دروس حرب تموز في المجال الإدراكي
للبدء، يمكن استعراض ما تناولته مختلف مراكز الدراسات الإسرائيلية والأميركية حول الدروس التي استخلصتها إسرائيل في المجال الإدراكي، الذي يشمل الجانبين النفسي والإعلامي، من حرب تموز 2006 والتجارب التي سبقت معركة «أولي البأس».
ركزت هذه الدراسات على تحليل الأثر النفسي للحرب في الجمهور الإسرائيلي، وتقييم فعالية الإستراتيجيات الإعلامية التي اعتمدتها إسرائيل في تلك المرحلة. كما سلّطت الضوء على نقاط الضعف التي ظهرت في مواجهة الرواية المضادة للمقاومة، إضافة إلى دور الإعلام في تشكيل تصورات الرأي العام المحلي والدولي حول الحرب وأحداثها.
وقدمت هذه الدراسات توصيات لتحسين الأداء الإدراكي في الحروب المستقبلية، خاصة في ما يتعلّق بالسيطرة على تدفّق المعلومات، وتعزيز الخطاب الإعلامي الذي يخدم مصالح إسرائيل، مع إدراك أهمية تكييف الإستراتيجيات النفسية والإعلامية لتتناسب مع تطورات التكنولوجيا ومتغيرات بيئة الصراع. وبناءً على قراءة لعدد كبير من هذه الدراسات يمكن استخلاص الآتي كتوصيات للعدو الإسرائيلي:
- ذكرت بعض الدراسات أن الكيان، عندما يواجه طرفاً تستند مقاومته إلى عوامل أيديولوجية أكثر من القوة المادية، فإن ذلك يعني أن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها في المواجهة لا يكفي. لذلك، يجب دمج استخدام القوة العسكرية ضمن إستراتيجية أوسع تشمل المجال الإعلامي والسياسي وغيرهما من المجالات.
- تُعدّ الإرادة السياسية لمؤيدي المقاومة مركز ثقل أساسي في المواجهة ضد العدو، ولذلك يجب على إسرائيل العمل على كسر هذه الإرادة.
- لقد اعتمدت إسرائيل على القوة أكثر مما ينبغي، واعتمدت أقل مما ينبغي على العمليات الإعلامية.
- من مشكلات إسرائيل أنها خاضت معركتها الإعلامية إلى حد كبير بهدف التأثير في الداخل الإسرائيلي وعلى الرأي العام المؤيد لها في الخارج. وقد استندت خطتها الإعلامية إلى افتراض أنها غير قادرة على تغيير تصورات الرأي العام المحايد أو المعادي.
- تعلم جيش العدو الإسرائيلي أن السيطرة على تدفق المعلومات -سواء داخل الكيان أو نحو المجتمع اللبناني- أمر بالغ الأهمية. تذكر الدراسات أنه يجب على الكيان أن يكون مصدر المعلومات الرئيسي للإسرائيليين واللبنانيين على سواء. بمعنى أوصت الدراسات أنه في أي حرب مقبلة مع لبنان من الضروري أن يتداول اللبنانيون المعلومات والأخبار التي تصدر عن العدو ويبنوا عليها.
- لا يصلح أي ضابط أو مسؤول كبير للخدمة في قوة عسكرية حديثة إذا لم يفهم الطبيعة السياسية والإدراكية للحرب، والحاجة إلى إجراء عمليات إعلامية مصممة خصيصاً لجمهور محايد ومعادٍ فضلاً عن الجمهور المتعاطف.
- يدرك الفكر العسكري الحديث أن هدف العمليات العسكرية ليست فقط إلحاق الضرر المادي المباشر بالطرف الآخر، بل أيضاً تشكيل تفكير العدو بما يخدم أهداف الحملة.
- تأثير قدرات وسائل التواصل الاجتماعي المحلية الرسمية وغير الرسمية يتنافس الآن مع القوة المادية على الأسبقية في خدمة الأهداف السياسية.
الهيمنة المعلوماتية
بناءً على هذه الدروس، قدّرت بعض الدراسات أن «الهيمنة المعلوماتية» تُعدّ شرطاً ضرورياً في أي حرب مقبلة مع لبنان. ولتحقيق هذا الهدف، تحتاج إسرائيل إلى السيطرة على تدفّق المعلومات، ما يعني أن تكون المصدر الرئيسي للأخبار الصادرة في الحرب، والتي يعتمد عليها طرفا الصراع في بناء تصوراتهم.
ولتحقيق هذه السيطرة، عمل العدو على المسارات الآتية:
- الرقابة العسكرية على المعلومات:
- السرية الميدانية: منع تسريب أي معلومات عن التحركات العسكرية أو العمليات الجارية.
- فرض الرقابة على وسائل الإعلام: التأكد من أن التغطية الإعلامية تخدم الأهداف العسكرية، وحجب المعلومات التي قد تُستخدم من قِبل المقاومة.
- حظر التصوير والبث: منع نشر الصور أو مقاطع الفيديو التي قد تكشف معلومات حساسة.
- الدعاية والحرب النفسية:
- تثبيت المرجعيّة المعلوماتية: تقديم المعلومات بشكل متواصل ومُنسَّق. وتمرير معلومات صحيحة عن خسائر الكيان في بعض الأحيان لتأكيد موثوقية المصدر.
- التأثير النفسي في المقاومة ومؤيّديها: نشر معلومات مضلّلة تستهدف إضعاف معنويات المقاومة ومجتمعها. مثل نشر رواية استشهاد سماحة السيد نصرالله والتأكيد على أنه استشهد اختناقاً.
- التلاعب بالمشاعر: استغلال الصور والسرد القصصي لكسب تأييد الحلفاء والتأثير سلباً في الأعداء. وهذا أحد أسباب نشر فيديوهات للأسرى اللبنانيين الذين أُسروا في الحرب.
- الإغراق المعلوماتي والتضليل:
- إغراق اللبنانيين بالمعلومات: نشر كميات كبيرة من المعلومات الحقيقية والمزيفة لإرباك اللبنانيين عامة ومؤيّدي المقاومة خاصة.
- تشويش التحليلات: تقديم معلومات متناقضة لإضعاف قدرة المحلّلين على فهم الوضع. وهذا يضع مسؤولية كبرى على المتصدّين في مجال التحليل السياسي لعدم الاستعجال، بل يجب التمعّن جيداً قبل تبنّي أي مقاربة.
- التعاون مع وسائل الإعلام الأجنبية:
- التعاون مع وسائل الإعلام العربية: لكي تنجح إسرائيل في السيطرة على تدفّق المعلومات في لبنان والعالم العربي كان واجباً عليها أن تتعاون مع وسائل إعلام عربية، ولبنانية بشكل خاص. عبر هؤلاء يضمن العدو وصول المعلومات التي يريدها والتي يوظّفها في سياق الحرب الإدراكية. وعليه، فإن المنصات التي تبنّت سرديات العدو لم تكن طرفاً مساعداً له في الحرب، بل كانت جزءاً أساسياً من استراتيجية الكيان للسيطرة على تدفّق المعلومات وتحقيق المنجزات في الساحة الإدراكية.
أهداف السيطرة على تدفّق المعلومات
- إضعاف الروح المعنوية للمقاومة ومجتمعها: عمل العدو على تفكيك الجبهة الداخلية عبر نشر أخبار أو شائعات تهدف إلى زعزعة ثقة السكان بقيادتهم أو بقدرات المقاومة، إضافة إلى بث الشك والخوف عبر تضخيم الخسائر وتصوير الكيان كقوة لا تُهزم.
- السيطرة على الرواية الإعلامية: سعى العدو إلى احتكار الحقيقة عبر فرض الرواية التي تخدم مصالحه ومنع أي سردية مضادة، مثل محاولة تصوير أن سبب الحرب هو جبهة الإسناد. كما عمل على تشويه صورة المقاومة بتصويرها كمنظمة غير شرعية، وتضخيم نجاحاته العسكرية والدبلوماسية لتأكيد تفوقه. إضافة إلى ذلك، لجأ إلى خلق أولويات وهمية بهدف تضليل الخصم بشأن الأهداف الحقيقية للعمليات العسكرية. فرغم أن حربه كانت حرب إلغاء للمقاومة في لبنان إلا أنه لم يتبنَّ هذا الهدف رسمياً.
- التأثير في الرأي العام المحلي والدولي: سعى العدو إلى كسب التعاطف الدولي عبر تقديم نفسه كضحية أو كقوة إنسانية تدافع عن القيم المشتركة، إضافة إلى العمل على إضعاف تأييد الرأي العام الدولي، سواء في الإقليم أو العالم، للمقاومة.
هل نجح العدو في هذه الإستراتيجية؟
إلى حد كبير نجح العدو في السيطرة على تدفّق المعلومات في الحرب الأخيرة وذلك لأسباب متنوّعة يمكن سرد أهمها:
- قدراته التكنولوجية الضخمة وإمكاناته المادية التي ساعدت في أن تصل روايته بشكل سريع وفعّال.
- تعاون وسائل إعلام عربية معه، ما أتاح فرصة لكي تصل رسائله باللغة العربية بشكل سريع.
- القيود الموجودة على مؤيّدي المقاومة في وسائل التواصل الاجتماعي.
- إغراقه المعلوماتي حوّل الكيان إلى مرجعية.
- حجم المنجزات التكتيكية الكبيرة التي بثّها في الإعلام وتبيّن أنها صحيحة (حول الاغتيالات)
- امتلاكه للصورة في ظل غياب الصورة للمقاومة.
- غياب الرواية الرسمية للمقاومة مقابل استعراض مواقف بشكل مستمر من قبل العدو. وهذا كان من نتائج اغتيال السيد نصرالله. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشهيد الحاج محمد عفيف استطاع سد جزء من الفراغ في هذا المجال.
- تكثيف تداول منصات مؤيّدة للمقاومة لكل ما يصدر عن إعلام العدو من دون التدقيق في جدوى النشر.
كيف نواجه هذه الاستراتيجية؟
أولاً يجب التأكيد على أنه في الحرب الإدراكية من المستحيل ضمان الأمن بنسبة 100٪. ولكن يمكن الحد من تأثيرها إلى حد كبير وذلك عبر الخطوات الآتية:
- تعزيز الوعي الإعلامي لمجتمع المقاومة بحيث يصبح الفرد يُدرك ما هي المصادر الصحيحة لأخذ الأخبار منها. كما يجب على كل فرد أن يعرف ما يجب أو لا يجب نشره.
- بناء منظومة إعلامية قوية.
- تعزيز رقابة الدولة على وسائل الإعلام اللبنانية ومحاسبة كل وسيلة إعلامية تخدم العدو.
- التنسيق الإعلامي بين الجهات المؤيّدة للمقاومة.
- إدارة المعلومات أثناء العمليات العسكرية عبر البيانات الرسمية المستمرّة والتواصل الدائم مع الإعلاميين والصحافيين.
- طرح سردية للأحداث مرفقة بأدلة.
- تعزيز الثقة بين الجمهور والمقاومة. وهنا يجب الإشارة إلى أن العدو حاول استغلال شهادة السيد نصرالله لبث الكثير من الأخبار والروايات التي تضرب ثقة الجمهور بالمقاومة وقيادتها.
محمد حسن سويدان – الأخبار