سلط إنشاء وزارة الدفاع الإسرائيلية، في يناير 2025، إدارة جديدة للذكاء الاصطناعي والتحكم الذاتي، الضوء على عملية التحديثات التي تسعى من خلالها إسرائيل لرفع قدرات الجيش والتي أتت استجابة لمجموعة من العوامل التي أفرزتها حرب غزة والمواجهة مع حزب الله في لبنان، ولا سيما بعد زيادة خسائر الجيش الإسرائيلي البشرية في مواجهاته الأخيرة وتعرضه للانتقادات، والتي دفعته لمحاولة تلافي ذلك مستقبلاً من خلال تعزيز القدرة الآلية للأسلحة وأنظمة التحكم الذاتي بجميع الفروع العسكرية للجيش، بما فيهم سلاح المشاة والقوات البرية، بالتعاون مع العديد من شركات الأسلحة والمؤسسات البحثية والأكاديمية.
تحولات عسكرية
يحمل إنشاء وزارة الدفاع الإسرائيلية إدارةً جديدة للذكاء الاصطناعي والتحكم الذاتي العديد من الدلالات التي يمكن قراءتها من إعلان الوزارة وسلسلة التحديثات الأخيرة التي قادها الجيش الإسرائيلي، ويمكن بيانها على النحو التالي:
1- سعي إسرائيل لتعزيز قدراتها العسكرية المستقلة: تستهدف تل أبيب من وراء إنشائها إدارة جديدة للذكاء الاصطناعي والتحكم الذاتي تعزيز قدرات الأنظمة المستقلة داخل المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية، وهو ما أعلنته وزارة الدفاع، خاصة بعد تزايُد اعتماد الجيش الإسرائيلي على الآليات ذاتية التحكم. وهو الاتجاه الذي بدأت وزارة الدفاع في انتهاجه لمحاولة مواكبة التطورات التكنولوجية في أنظمة التسليح لتعزيز قدرتها على التعامل مع خصومها. وأكد ذلك المدير العام السابق لوزارة الدفاع، اللواء المتقاعد “إيال زامير” بتصريحه بأن ساحة المعركة المستقبلية ستشهد فرقاً مدمجة من الجنود والأنظمة المستقلة تعمل بانسجام، كما أضاف أن هذه المبادرة الجديدة تهدف إلى تقليل الخسائر البشرية، وستشمل جميع فروع قوات الدفاع الإسرائيلية، بما في ذلك القوات الجوية والبحرية والبرية والاستخبارات والفضاء.
وفي هذا الصدد، وقّعت مديرية البحث والتطوير الدفاعي عدة عقود مع شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية، في ديسمبر 2024، بقيمة إجمالية تقارب 40 مليون دولار أمريكي، لتزويد قوات الدفاع الإسرائيلية بـأنظمة طائرات مسيرة وأنظمة مستقلة متقدمة تتضمن طائرات صغيرة بدون طيار (UAV) تستخدم نظام Legion-X الخاص بالشركة، والذي يشكل أساس نظامها HuntAir-X لتنسيق أسراب الطائرات المسيرة للمراقبة.
2- تزايُد استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالجيش الإسرائيلي: تُدير مديرية البحث والتطوير الدفاعي بوزارة الدفاع الإسرائيلية إدارة مخصصة للطائرات الموجهة، مسؤولة عن عناصر أنظمة الطائرات بدون طيار، بما في ذلك أنظمة الاتصالات والحمولات ومحطات المهام المحددة، بالتعاون مع القوات الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية، إلى جانب الصناعات الدفاعية. وعلى الرغم من أن الإدارة الجديدة للذكاء الاصطناعي والتحكم الذاتي تعمل بشكل مستقل عن إدارة الطائرات بدون طيار، إلا أنها تعكس التوسع المتزايد لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات العسكرية، من المراقبة تحت الماء وصولاً إلى المركبات الأرضية غير المأهولة.
وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد إسرائيل على تطبيقات الذكاء الاصطناعي يعود لعدة سنوات ماضية، فقد استخدمت تل أبيب برامج التعرف على الوجه المدعومة بالذكاء الاصطناعي عند نقاط التفتيش في الضفة الغربية، ونشرت أنظمة تعمل بالذكاء الاصطناعي لمراقبة السكان الفلسطينيين في غزة قبل اندلاع الحرب الأخيرة في 2023، كما كانت عملية “حارس الأسوار” في عام 2021 أول حرب ذكاء اصطناعي لإسرائيل، حيث اعتمد الجيش الإسرائيلي بشكل كبير على التعلم الآلي لتحديد أهداف حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وضربها، بعد 7 أكتوبر 2023، وتم تطوير خوارزميات وتحديثات جديدة لتوسيع ترسانة إسرائيل من هذه الأنظمة.
3- رغبة إسرائيل في تعزيز مكانتها بمجال الذكاء الاصطناعي العسكري: تسعى إسرائيل دائماً لتحقيق التفوق النوعي في مجال التسليح، من خلال الاعتماد على تكنولوجيا فائقة التطور. ولجأت في هذا الصدد لنقل تقنيات الذكاء الاصطناعي من المجال المدني للعسكري، حيث صرح “إيال زامير” بأن إسرائيل تسعى لأن تصبح قوة عظمى في مجال الذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى مجالات مثل النماذج التوليدية المدربة مسبقاً (GPT) والذكاء الاصطناعي العام (AGI) التي تُعد أولويات للبحث والتطوير في القطاع المدني للذكاء الاصطناعي باتت أكثر إمكانية للتطبيق في مجال الدفاع.
4- تقليل الاعتماد على العنصر البشري بالمعارك: فرضت الخسائر البشرية التي تكبدتها تل أبيب في حربها بغزة ولبنان العديد من الخسائر البشرية، والتي صعدت من حدة الانتقادات التي وُجهت للإدارة السياسية والعسكرية، لذلك تسعى الحكومة الإسرائيلية لتلافي مثل هذه الخسائر والانتقادات في أية حروب مستقبلية من خلال تقليل الاعتماد على العنصر البشري في المعارك بتعزيز القدرات الآلية وأنظمة التحكم الآلي.
ففي ديسمبر 2024، وخلال الحرب مع حماس وحزب الله، حققت مديرية البحث والتطوير الدفاعي تقدماً كبيراً في أبحاث وتطوير واقتناء الطائرات بدون طيار، بتعاقدات تجاوزت 40 مليون دولار، بالتعاون مع الشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاع الطائرات بدون طيار، ويؤكد هذا التطور أهمية سعي إسرائيل لتعزيز قدراتها المستقلة لتحقيق التفوق الاستراتيجي والعملياتي. وعبر عن ذلك صراحة العميد “يهودا الماكياس”، رئيس قسم البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإسرائيلية بقوله إن الوزارة قدمت العديد من الطلبات لشركات مختلفة، بما في ذلك شركة “إلبيت سيستمز” وغيرها من شركات الصناعات الدفاعية والشركات الناشئة لحيازة الطائرات بدون طيار التي تُتيح جمع المعلومات الاستخبارية، وتنفيذ المهام الهجومية بكفاءة ودقة وقابلية للتطوير.
5- تعزيز التعاون بين القطاعات الأكاديمية والجيش: يُشير استحداث وزارة الدفاع الإسرائيلية لإدارة جديدة للذكاء الاصطناعي والتحكم الذاتي إلى توجه الحكومة الإسرائيلية لتعزيز التعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات الأكاديمية والبحثية والجيش من أجل تطوير أنظمة جديدة. حيث أشار رئيس مديرية البحث والتطوير الدفاعي، العميد المتقاعد “دانيال جولد”، إلى أن الإدارة الجديدة ستجمع بين الأكاديميين وشركات الدفاع وخبراء من قوات الدفاع الإسرائيلية، وأنها ستوحد جميع أصحاب المصلحة، من الباحثين إلى المشغلين، تحت سقف واحد. لا سيما وأنه من المرجح أن تعمل هذه الإدارة بشكل متكامل مع إدارات التطوير الأخرى، لتعزيز الشراكات بين قطاع التكنولوجيا المدنية والعسكرية في إسرائيل.
6- دعم الشركات الناشئة بمجال التكنولوجيا العسكرية: من المرجح أن تستهدف هذه الإدارة نقل الصناعات الدفاعية الراسخة من الشركات الكبيرة إلى الشركات الناشئة المبتكرة لدعم سوق الذكاء الاصطناعي العسكري خلال الفترة القادمة ولتعزيز التنافسية والابتكار بين هذه الشركات. وعلى الرغم من كون إسرائيل تُعد من أولى الدول التي تعتمد على أحدث التكنولوجيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، إلا أن إنشاء إدارة مخصصة للذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة مؤخراً يؤكد على استراتيجية تل أبيب في توظيف التعاون بين القطاعات الأكاديمية وقطاع الدفاع والجيش لخدمة شركات تكنولوجيا التسليح الناشئة.
7- التوسع في الأنظمة التسليحية المدعومة بالذكاء الاصطناعي: تستهدف تل أبيب من وراء إنشاء هذه الإدارة التوسع في تطوير الأنظمة التسليحية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ويدعم هذا التوجه ما كشفت عنه شركة “إلبيت سيستمز” في ديسمبر 2024 عما وصفته بـ”ذخيرة إسقاط تكتيكية” تسمى TerminaThor، التي يمكنها حمل ما يصل إلى ست قنابل صغيرة من طراز M66، وهي ذخائر تزن 1.2 كجم طورتها الشركة وتم تعديلها للاستخدام بواسطة الطائرات بدون طيار وتعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، لكنها تتطلب وجود مشغل بشري في دورة القرار قبل الاشتباك مع الهدف.
صعود الآلة
ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من أن إسرائيل لها باع طويل في توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، إلا أن خطوتها الأخيرة تعكس توجهاً لزيادة الاعتماد على هذه الأنظمة الفترة المقبلة، بجانب سعيها لتوحيد كل الجهود المتعلقة بعمل وتطوير هذه الأنظمة تحت إدارة مستقلة. ومن المتوقع أن تدفع خطوة إنشاء إدارة جديدة للذكاء الاصطناعي نحو تطوير العديد من أنظمة التحكم الذاتي، خاصة فيما يتعلق بالمركبات الأرضية لتقليل الاعتماد على العنصر البشري.
انترريجيونال