لم تشكل إقالة يؤاف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي من منصبه، في 5 نوفمبر 2024، مفاجأة لأحد داخل إسرائيل أو خارجها. فقد كانت الخلافات بينه وبين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تحتل عناوين وسائل الإعلام الإسرائيلية حتى من قبل هجوم حماس في 7 أكتوبر2023. والأهم من ذلك أن التوقعات بإقالة جالانت أخذت في التصاعد منذ منتصف سبتمبر الماضي، والتي رافقها تكهنات بإمكانية حلول جدعون ساعر الذي سبق له الانشقاق عن حزب “الليكود” وتأسيس حزب باسم “أمل حديد” محل جالانت.
لا يعني قرار نتنياهو أن إقالة جالانت ستمر دون تبعات، خاصة مع دعوة زعيم المعارضة يائير لبيد للتظاهر، وهو ما أسفر بالفعل عن احتشاد عشرات الآلاف من الإسرائيليين في عدة مدن للتعبير عن رفضهم لقرار نتنياهو بإقالة جالانت.
ويبدو السؤال الملح حالياً: لماذا اتخذ نتنياهو قراره بإقالة جالانت في مثل هذا التوقيت؟، ولماذا لم يخش من احتمال مواجهة مظاهرات عارمة ضد قراره كما حدث في شهر مارس 2023 عندما أطاح بجالانت من منصبه لأول مرة (على خلفية رفض جالانت لخطة التعديلات القضائية) واضطر بعدها بأسبوعين فقط للتراجع عن قرار الإقالة بعد أن كاد قراره يتسبب في حرب أهلية؟
سؤال آخر ستكون إجابته مُعلَّقة لفترة لن تطول وهو: كيف سيؤثر القرار على إدارة حروب إسرائيل المتعددة الجبهات في الوقت الحالي؟، وهل اختيار وزير الخارجية يسرائيل كاتس لتولي حقيبة الدفاع، وإسناد وزارة الخارجية لجدعون ساعر سيعني نهاية الصراعات، التي كانت قد احتدمت على مدى العام المنصرم منذ بدء الحرب، بين نتنياهو وبعض وزرائه في حكومة الطوارئ التي تم حلها في يونيو الماضي؟، أم يمكن أن تعود هذه الصراعات، بصورة مغايرة، في ظل الحكومة الائتلافية التي تقود البلاد حالياً؟
دلالة التوقيت
اتخذ نتنياهو قراره بإقالة جالانت تحت مبرر أن الثقة باتت مفقودة بينهما، حيث دأب جالانت على معارضة قرارات نتنياهو المدعومة من الائتلاف الحاكم بشكل علني، وخاصة فيما يتعلق بإدارة الحروب الإسرائيلية الحالية على أكثر من جبهة.
ولكن لا يبدو هذا المبرر مقنعاً، حيث أن خلافات جالانت مع نتنياهو حول إدارة تلك الحروب المتعددة الجبهات كانت موجودة منذ اليوم التالي لهجوم حماس، ومنذ فتح حزب الله والمليشيات الأخرى (الحوثيين في اليمن، والجماعات الشيعية في سوريا والعراق) جبهات أخرى ضد إسرائيل. ورغم ذلك، لم يقدم نتنياهو على التخلص من جالانت في حينها بسبب خوفه من الدخول في مواجهة مبكرة مع شركائه في حكومة الطوارئ، ومع الرأى العام الإسرائيلي الذي كان ما يزال يعيش في حالة صدمة وغضب مما جرى في 7 أكتوبر.
ويمكن القول إن نتنياهو لم يبدأ بشكل واضح في التخطيط للإطاحة بجالانت إلا في شهر يونيو الماضي، بعد انسحاب كل من بيني جانتس وجادي أيزنكوت (ممثلي حزب “معسكر الدولة”) من حكومة الطوارئ التي تشكلت عقب هجوم حماس بأيام لإدارة الحرب وكأنها حكومة وحدة وطنية أو على الأقل مجلس للحرب به معارضون لنتنياهو سياسياً. فخلال الفترة التي أدارت فيه حكومة الطوارئ الحرب، كان التقارب بين جالانت وكل من جانتس وأيزنكوت يضع عائقاً أساسياً أمام أي محاولة من جانب نتنياهو للتخلص من جالانت.
كما حدثت عدة تطورات هامة بعد رحيل حكومة الطوارئ زادت من قوة نتنياهو وشعبيته وعلى رأسها:
1- قيام الجيش والاستخبارات الإسرائيلية بتدمير معظم قوة حماس العسكرية، وتصفية معظم قياداتها وآخرهم يحيى السنوار(تم اغتياله في شهر أكتوبر الماضي).
2- اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وعدد كبير من قياداته ومقاتليه في عدة عمليات نوعية.
3- توجيه إسرائيل لضربة قوية ضد إيران في 26 أكتوبر الماضي أدت -حسب ادعاء نتنياهو- إلى تدمير جزء كبير من قدراتها الدفاعية والصاروخية.
4- الكشف قبل يومين فقط من إقالة جالانت عن وجود تسريب لمعلومات استخبارية حساسة، واتهام أربعة عسكريين بعضهم يعمل في مكتب نتنياهو نفسه، بنقل هذه المعلومات لوسائل الإعلام، وهو ما اعتبره نتنياهو امتداداً لسياسة جالانت في إفشاء ما يدور من مناقشات داخل الحكومة، وداخل الكابينت الأمني، لإحراجه ومحاولة إفشال سياساته.
5- اتخاذ جالانت قبل إقالته بعدة ساعات فقط قراراً بتجنيد عدة آلاف من شباب الطائفة الحريدية (يرفض قادة الطائفة الخدمة في الجيش لأسباب دينية)، وهو الإجراء الذي يمكن في حالة تنفيذه أن يتسبب في إسقاط الحكومة في الكنيست عند أول تصويت بالثقة عليها.
6- تزامن اتخاذ قرار الإقالة مع انطلاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية ربما يشير إلى أن نتنياهو أراد استغلال انشغال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بإنجاح مرشحة الحزب الديمقراطي كمالا هاريس، لكى يتفادي أية انتقادات أمريكية لقرار الإطاحة بجالانت المعروف عنه القرب الشديد من الإدارة الأمريكية، والتي كانت تراهن عليه (أي جالنت) لتقليل تأثير نتنياهو في قرارات إدارة الحروب التي تخوضها إسرائيل، والتي تخشى الولايات المتحدة من توسعها واضطرارها للتورط فيها بشكل كبير.
في معظم هذه التطورات، كان نتنياهو الأقرب لموقف الرأى العام الإسرائيلي، عكس جالانت، الذي كان يشكك في هذه القرارات حيناً، أو يصفها حيناً آخر بأنها لا ترقى لمستوى التحديات المفروضة على إسرائيل. فالرأى العام من خلال الاستطلاعات كان يدعم تشديد الهجمات ضد حزب الله والسعى لتدمير قوته العسكرية، وعدم التعويل على المبادرات الدبلوماسية التي كانت تستهدف فقط إبعاد قواته عن الحدود الإسرائيلية، بينما كان موقف جالانت هو منح المبادرات الدبلوماسية الفرصة لتحقيق الهدف نفسه تفادياً لحرب واسعة مع حزب الله وإيران. وبينما دافع نتنياهو عن مستوى الضربة الانتقامية ضد إيران في 26 أكتوبر الماضي، أشارت تقارير إعلامية إسرائيلية إلى أن جالانت كان قد أرسل إلى نتنياهو رسالة قبل تنفيذ الضربة العسكرية ضد إيران بساعات قليلة حذره فيها “من أن الحرب أصبحت تغير وجهها، والتهديدات ضد إسرائيل تتجدد دون تغير أهداف الحرب أو تحديثها”.
وقد بدت الرسالة غامضة كون أن التقارير نفسها أشارت إلى أن جالانت وافق على الضربة بحجمها وأهدافها المنتقاة!!، ولم يكن هناك تفسير لرسالته تلك إلا أن جالانت فقد اتزانه ربما ليقينه بأن بقاءه في منصبه لم يعد مضموناً سواء توافق مع نتنياهو في بعض القرارات أو اختلف معه.
والمعروف أيضاً أن جالانت كان يعارض بقاء الجيش الإسرائيلي في رفح الفلسطينية، ولكن مقتل السنوار بالقرب منها على يد الجيش الإسرائيلي، بدا في رؤية الجمهور الإسرائيلي كدليل على عدم جدارته بمنصب وزير الدفاع (كما صرح مسئول مقرب من نتنياهو لموقع تايمز اوف إسرائيل في 5 نوفمبر الجاري، دون ذكر اسمه).
بمعنى أكثر وضوحاً، كانت الفترة من يونيو الماضي وحتى إعلان نتنياهو إقالة جالانت بمثابة فترة ذهبية لنتنياهو لكى يمهد الطريق أمام قرار التخلص من وزير دفاعه، ولكن من السابق لأوانه الحكم على المدى الذي ستصله الاحتجاجات الشعبية ضد قرار الإقالة والتي بدأت لتوها، وإن كان يبدو أن نتنياهو يراهن على وجود أغلبية في الشارع الإسرائيلي ترغب في استكمال الحرب ضد حزب الله وإيران.
التأثيرات المحتملة
مما لا شك فيه أن الإطاحة بجالانت سيكون لها مردود إيجابي على تماسك الائتلاف الحاكم بقيادة نتنياهو. إذ على الرغم من أن مواقف جالانت لم تغير كثيراً من قرارات الحرب التي اتخذها نتنياهو بالتوافق مع أغلبية في مجلس الوزراء، إلا أن خروج الخلافات بينهما للعلن كان يتسبب في غضب قادة أحزاب الصهيونية الدينية والأحزاب الحريدية، والتي كانت تهدد بالانسحاب من الائتلاف حال الأخذ بآراء جالانت فيما يتعلق بأهداف الحرب ووسائل تحقيقها، أو في حالة تطبيق قانون التجنيد الإجباري على الحريديم .
وإذا كان اختيار نتنياهو لكل من يسرائيل كاتس كوزير جديد للدفاع، وجدعون ساعر كوزير للخارجية سيضمن له وجود تفاهم كامل معهما، كون أن كلاهما من أنصار استمرار الحرب حتى القضاء على القوة العسكرية لحزب الله، وردع إيران عن تكرار هجماتها ضد إسرائيل حتى لو أدى ذلك إلى حرب شاملة معها، إلا أن كاتس وساعر يمتلكان تاريخاً صدامياً مع نتنياهو يمكن أن يتجدد في قضايا أخرى، كما يمكن أن يتسبب في صعود طموحات كليهما للحلول محله في قيادة “الليكود” مستقبلاً.
بالنسبة لكاتس، فقد سبق له التنافس على رئاسة “الليكود” في مواجهة نتنياهو في ديسمبر 2021، وفي حينها ثارت قضية داخلية في “الليكود” حول مجموعة أطلقت على نفسها “الليكوديون الجدد” وصل عدد أعضائها إلى سبعة آلاف شخص، اتهموا بأنهم طابور خامس يساري داخل “الليكود”، وأثبتت لجنة تحقيق داخلية أنهم مدعومون من حزب “ميرتس” اليساري. واعتبر نتنياهو أن “الليكوديين الجدد يساريون متطرفون، يعملون كحصان طروادة لتدمير الليكود من الداخل”، واتهم منافسه يسرائيل كاتس بـ”التعاون مع المجموعة”.
أما جدعون ساعر، فقد انشق عن “الليكود” عام 2019 وأسس حزباً باسم ” أمل جديد” وظل يهاجم نتنياهو منذ ذلك الوقت من وجهة نظر أكثر تطرفاً، فهو من أشد الرافضين لأي حل وسط في الصراع مع الفلسطينيين، ويبدو أقرب لمؤيدي سياسة التهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين. كما أنه من مؤيدي توسيع الحرب ضد حزب الله، وقد انضم إلى حكومة الطوارئ (التي تم حلها في يونيو الماضي) ضمن تحالفه مع حزب “الوحدة الوطنية” بقيادة بيني جانتس، ولكنه استقال منها في مارس 2024 قبل حلها رسمياً بثلاثة أشهر احتجاجاً على عدم ضمه لمجلس الحرب المنبثق عن حكومة الطوارئ.
في ظل تلك الخلفية، لا يمكن استبعاد قيام كل من كاتس وساعر بالدفع قدماً في اتجاه سياسات أكثر تطرفاً في إدارة الحروب التي تخوضها إسرائيل حالياً، وهو ما سيهدد بأزمات عنيفة داخلية (في مواجهة أنصار احتواء الوضع ومنع تحوله إلى حرب شاملة) وأزمات خارجية خاصة مع الولايات المتحدة إذا ما نجحت المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس والتي وعدت في حملتها الانتخابية بإيقاف الحروب الإسرائيلية إذا ما فازت في الانتخابات.
سعيد عكاشة – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية