ثورة الأرتيريين ضد عنصرية “إسرائيل”

“هناك نظام عنصري لشعبين، يعيشان تحت ظل قانونينِ مختلفين، إسرائيل دولة ليس لها حدود، الإسرائيليون يمكنهم أن يقودوا سياراتهم إلى أي مكان يرغبون فيه، ولكن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك”! جاء ذلك على لسان، تامير باردو وهو شخصية إسرائيلية صهيونية، شغلتْ أخطر منصب في إسرائيل، وهو رئيس جهاز الموساد مدة خمس سنوات من عام 2011-2016، ونشرته وكالة أسوشيتد برس يوم 6-9-2023. قال أيضا: “الموساد منظمة إجرامية مرخصة”! (صحيفة هارتس، 3-6-2018)

للأسف، اقتنعت وسائل الإعلام برواية إسرائيل بشأن انتفاضة المهاجرين الأرتيريين في إسرائيل، لتطمس احتجاجات هؤلاء المهاجرين على عنصرية إسرائيل، وعلى نظام العبودية المطبق عليهم، فهم يعيشون في معازل، ويتعرضون لأقسى أشكال السخرة، ويُعتقلون ويُطاردون من معظم الإسرائيليين وبخاصة اليهود المتدينين (الحارديم)، لأنهم عبيد (غوييم)!

اختلقتْ إسرائيل روايتها المضللة بشأن انتفاضة الأريتريين لتطمس هذه العنصرية، ومن أبرز تفاصيل هذه الرواية: “الأرتيريون يقتتلون في شوارع تل أبيب، المتقاتلون الأرتيريون فريقان متحاربان، الفريق الأول هو المؤيد لنظام الحكم الديكتاتوري في أرتيريا المشابه لنظام كوريا الشمالية، هذا الفريق تمثله سفارة أرتيريا في إسرائيل! أما الفريق الثاني فهو المناهض لنظام الحكم، هم الهاربون من سطوة النظام الديكتاتوري، معظمهم لاجئون غير قانونيين في إسرائيل”!

نشرت الصحف الإسرائيلية كذلك أسبابا (قد) تقنع كثيرين لتصديق روايتها السابقة، فأشارت إلى أن النظام الديكتاتوري الأرتيري، برئاسة أسياس أفورقي جنَّد كثيرين من الأرتيريين في إسرائيل ليراقبوا المعارضين لنظام حكمه، هؤلاء جواسيس النظام تمثلهم سفارة أرتيريا في إسرائيل، هم يطاردون المعارضين ويطالبونهم أيضا بدفع مبالغ كبيرة بادعاء أنها ضرائب (كانت) مُستحقة الدفع عندما كانوا يعيشون في أرتيريا، الأريتيريون المهاجرون إلى إسرائيل هربوا من نظام السخرة في بلدهم! الغريب أن جهاز الشين بيت والموساد لا يعلمان مسبقا عن هذه الأحداث!

نشرت معظم وسائل الإعلام ـ في إطار تأكيد رواية إسرائيل، أن الأرتيريين يقتلون بعضهم بعضاـ كذلك فإن مظاهرات تل أبيب تدخل ضمن إطار المظاهرات الأرتيرية في كل دول العالم، فهم يقتتلون ليس في إسرائيل فقط، بل في كل دول العالم!

هناك إشاراتٍ كاشفة تشير إلى تورط إسرائيل نفسها فيما جرى، منها خبرٌ صغيرٌ جدا في صحف إسرائيل يقول: “تلقت الشرطةُ تحذيرات استخبارية مسبقة تؤكد وقوع تلك الاشتباكات، وطالبتْ جهات عديدة بمنع السفارة الأرتيرية من الاحتفال بذكرى مرور ثلاثين عاما على استقلال ارتيريا عن إثيوبيا، طالبت جهات استخبارية بإلغاء هذه المناسبة”!

لا أحد ناقش الموضوع من زاوية أخرى مختلفة عن الزاوية التي رسخها الإعلامُ الإسرائيلي، ولا أحد أيضا اهتمَّ بما نشرته وزارة الإعلام الأرتيرية توضيحا لما جرى في شوارع تل أبيب يوم السبت 2-9-2023، حيث أسفرت الأحداثُ عن إصابة أكثر من مائة وخمسين شخصا برصاص الجيش الإسرائيلي، وأن أكثر من خمسة عشر شخصاً هم في حالة خطيرة!

كذلك أبرزت وسائل الإعلامُ الإسرائيلية في صدارة أخبارها خبرَ إصابة ثلاثين شرطيا إسرائيليا، ليُغطي هذا الخبر على عدد القتلى الأرتيريين برصاص الشرطة الإسرائيلية، وادعت الشرطة أن كثيرين منهم كانوا يحملون الأسلحة! على الرغم من أن إسرائيل لا تُجرم فقط كل مَن يحمل السلاح وتعتقله وتقتله، بل تُطارد وتقتل وتعتقل كل من يحمل سكينا لتقطيع الفواكه!

نشرتْ بعض المواقع الإعلامية خبرَ التصريح الصحفي الصادر عن وزارة الإعلام في أرتيريا، وادعت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن هذا التصريح يأتي وفق (نظرية المؤامرة)!

جاء في تصريح وزارة الإعلام الأرتيرية: “تتحمل الموساد مسؤولية الاشتباكات بين الأرتيريين، وأن الموساد هو المتورط بالتعاون مع أجهزة مخابرات في دول أخرى في إشعال هذه الفتنة، للإساءة إلى نظام الحكم في أرتيريا” (صحيفة يديعوت أحرونوت 6-9-2023)

غير أن الحقائق بدأت تظهر بسرعة بعد الحدث، فقد طالبت الحكومة اليمينية في إسرائيل، وعلى رأسها نتنياهو نفسُه في اجتماع المجلس الأمني المصغر بعد أقل من يومٍ واحد من الأحداث، 3-9-2023، وفق ما نشرته صحيفة إسرائيل هايوم، قال: “إن كل من يدعم النظام الديكتاتوري في أسمرة لا يمكنه البقاء في إسرائيل أو طلب الإقامة”!

كما أن، حايم غورن نائب رئيس بلدية، تل أبيب قدم شكوى للشرطة الإسرائيلية يوم 5-9-2023 مدعيا أن صغار الأرتيريين هاجموا أسرته، قال: “أنا كعضو مجلس بلدي أقول: يجب علينا أن نمنع هذا الحدث المرعب من المهاجرين المتسللين، تنبهوا بأن جيلهم الجديد غير القانوني سيسبب لنا كارثة” (موقع إسرائيل ناشونال نيوز 6-9-2023)

أما، إيتمار بن غفير رئيس الأمن الوطني في إسرائيل، أقرَّ بسرعة البرق إجازة (الاعتقال الإداري) للأرتيريين، على شاكلة الاعتقال الإداري للمناضلين الفلسطينيين، أي أن يبقوا معتقلين بدون محاكمات مددا طويلة جدا ليرحلوا بالقهر والسجن!

ادعت صحف إسرائيل بأن ثلاثة وخمسين إرتيريا (فقط) اعتقلوا ونقلوا إلى سجن غفعون في الرملة، وهؤلاء سيُرحَّلون آجلا أم عاجلا!

لا يجب أن يغيب عنا ما حدث وما يحدث في إسرائيل الساعية لترسيخ كينونتها (دولة اليهود) فهي دولة اليهود فقط، أما الاخرون فهم إما مشاريع تصفيات جسدية بواسطة عصابات الإجرام المنظمة، كما يحدث لأهلنا الفلسطينيين الصامدين في أرضهم منذ عالم 1948 ممن يتعرضون لمؤامرة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وشعار هذه الحكومة على لسان بن غفير: (دعهم يقتتلون، إنهم يقتلون بعضهم بعضا)!

فما يحدث من جرائم قتل يومية يقع ضحيتها كثيرون من الأبرياء تأتي في السياق نفسه (إسرائيل دولة اليهود) وإن اختلفت طرق حكومة نتنياهو في تحقيق هذا الهدف!

سأظل أذكر معسكر (حولوت) وهو معسكر اعتقال المتسللين المهاجرين، بنته إسرائيل في النقب بالقرب من الحدود المصرية لاعتقال واحتجاز المتسللين الهاربين من إفريقيا، هو معسكر للعبودية افتتح عام 2014 ولم يُغلق إلا بعد أربع سنوات من افتتاحه، بعد احتجاجات منظمة، هيومن رايتس ووتش ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى في العالم.

قال أحدُ الأرتيريين يصف هذا المعتقل: “نشرب في معسكر حولوت مياها ملوثة، ونشتم الروائح الكريهة نهارا وليلا، نحن اليوم نشبه العبيد اليهود في العصر الفرعوني” (صحيفة تايمز أوف إسرائيل 12-4-2017)

أُرغمت إسرائيل على إغلاق مُعتقل حولوت بعد الاحتجاجات، وبعد قرار من محكمة العدل العليا عام 2018، غير أن حكومة نتنياهو اليمينية تبحث إمكانية إعادة افتتاحه من جديد، ولكنها لم تكتفِ بانتظار إعادة افتتاحه، لأنها وجدت بدائل عن هذا الإغلاق!

إن ما حدث في شوارع تل أبيب، وقتل المتظاهرين الأريتيريين برصاص الشرطة الإسرائيلية هو بديلٌ عن سجن حولوت، يصب في مجرى نهر تفريغ إسرائيل من غير اليهود، وأي جنسٍ آخر غير يهودي!

فقد رحَّلوا المهاجرين السودانيين بخطة أخرى، أعادوا كثيرين إلى السودان بالاتفاق مع حكومتي السودان، نظير منحهم بعض النقود لإغرائهم بالعودة إلى وطنهم! كذلك فعلوا حين توافقوا مع كندا وبعض دول العالم الأخرى لتوافق على طلبات منح الجنسيات للمهاجرين في إسرائيل!

سأظل أذكِّر بأن تحقيق شعار إسرائيل السابق، (إسرائيل دولة اليهود) بدأ منذ فترة طويلة، حين شرعت إسرائيل في بناء نظام الأسوار والجدران والمعازل العرقية (المستوطنات) وما مشروع بناء جدار الفصل العنصري عام 2002 ليفصل الفلسطينيين في الضفة الغربية عن المعازل العرقية سوى خطوة في الطريق نفسه!

أما إقامة السور الإلكتروني بين مصر وإسرائيل يبلغ طوله 240 كيلومتر، عام 2010 لم يكن على الإطلاق لمنع تجارة المخدرات وتسلل الإرهابيين كما ادَّعت إسرائيل، بل جاء لتنفيذ “إسرائيل دولة اليهود فقط”!

إن إسرائيل هي دولة الأسوار وجدران العزل، هي العدو الأول للعالم عالم الأفق المفتوح، ليس هناك دولة تشبهها، فهي ذات المساحة الصغيرة جدا محاطة بستة أسوار وجدران، لا تشبه أسوار العالم بل هي أسوار فوق الأرض وتحت الأرض، وصولا إلى العوازل البحرية الإلكترونية، كل ذلك يحدث في عصر العولمة، عصر الانفتاح، عصر القرية الكونية الواحدة!

توفيق أبو شومر – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

اساسياسرائيل